/B_rub>
حبيبي، ابني الذي لم أره، ولم ألمسه، ولم أسمع صوت بكائه.
أنا الملوم لأنني تركتك ترحل دون أن أراك، أعترف لك الآن بعد أكثر من ربع قرن على وفاتك أنني ارتكبت جريمة بحقك، كلما أتذكر يوم مولدك، أصاب بالاكتئاب، أشعر بعقدة الذنب تجاهك، أتمنى لو تعود لكي أعتذر منك، لكي أقبلك، لكي ألمس جسدك الطري. كنت أعتقد أن الله سيرزقني بأخ لك يعوضني حنان الابن فحرمني من الأولاد من أمك سنوات طويلة حتى رزقت بأول أخ لك نصف شقيق بعد واحد وعشرين سنة من وفاتك، كأنه عقاب إلهي لي.
لا أدري يا صبحي (هكذا كنا سنسميك) على اسم جدك الذي اشتهر به، ماذا أقول لك، كنت في بداية مرحلة الشباب، وعندما أوصلت أمك التي أحست بألم في بطنها قبل الموعد الطبيعي لتشريفك الرسمي لم يكن يدر بخلدي أنك ستأتي قبل الموعد المحدد، فتركتها في مستشفى «بيت جالا» في فلسطين المحتلة ليلا وعدت إلى البيت، وعندما ذهبت صباحا إلى المستشفى لأطمئن على أمك قيل لي أن زوجتك وضعت مولودا توفي بعد ساعة من ولادته لأنه كان غير مكتمل النمو، ولم يكن في المستشفى الأجهزة الطبية الحديثة، فهو شبه مستشفى.
عندما سمعت بالخبر حزنت عليك، وخفت إن رأيتك ميتا أن يزداد حزني فقررت وليتني لم أفعل أن تدفن دون أن أكحل عيني برؤيتك، كانت مشاعر الأبوة فاترة لدي، لم أهجم عليك لأحتضنك كما يفعل الآباء، وعندما عرض علي الطبيب المناوب أن أتبرع بجسدك لإحدى جامعاتنا للتدريب المهني، وخدمة للعِلم وافقت بعد أن أقنعت أمك لأنني رأيت في ذلك خدمة لأبنائنا الطلاب.
لا تسألني لماذا لم تأت ساعدة ولادتك، فلم أعرف متى ستشرفنا، ولم يكن لدينا جهاز تلفون، ولم تكن الهواتف المحمولة معروفة بعد. هل هو عذر أقدمه لك لتصفح عني؟ كلا فأنا لا أنكر أنني أخطأت بحقك، ماذا أقول لك كنت شابا لم يقدر معنى الأبوة، لهذا فأنا أتألم كل يوم لأنني لم أعرف لك قبرا، ولا مكانا دفنت فيه، لقد دفنتك في قلبي، وغطيتك بدموعي، ومنذ تلك اللحظة وأنا أشعر بالذنب، وأذرف الدموع بصمت عليك كلما تذكرتك، هل أعاقب نفسي؟ أم أنك تعاقبني عندما تطل كل حين على ذاكرتي؟
كلما أرى شبحك أتمنى أن تقترب مني أكثر لأراك وأتمتع برؤيتك ولو لثوان، لأسمع صوتك تناديني أو تعاتبني، لألمس أصابعك، أو خديك الصغيرين.
في كل مرة أبحث عن جواب لسؤالك المعهود:
– لماذا تركتني يا أبي دون أن تراني؟؟
لماذا لم تنتظرني مع أمي طوال الليل وساعات النهار؟ كما فعلت مع أخي عمر بعد واحد وعشرين سنة، أو أخي قيس بعده بعامين؟
لماذا …؟
كفى يا ولدي فلا جواب لدي، عندما عرفت معنى الأبوة أحسست بذنبي تجاهك، فهل تسامحني؟ هل ستستقبلني بالجنة إن دخلتها ماشيا؟ أم ستهرب مني طائرا لأظل أبحث عنك؟ هل ستطلب لي الرحمة والغفران؟ كيف لي أن أعرفك، وأنا لم أرك من قبل؟ لم أسمع صوتك، لم أشم رائحتك العطرة، هل تشبهني أم تشبه أمك أم أنك خليط منا؟
أخاف أن أسأل أمك هذه الأسئلة حتى لا أثير مواجعها، فبعد موتك لم ترزق بغيرك، وفشلت كل محاولاتنا بأن نخلفك بشقيق يحمل ذكراك، كأنه عقاب لنا لما أذنبته بحقك.
كيف أعرفك يوم البعث، وأنا لم أرك من قبل؟ وعندما أجدك هل ستحتضنني وأنا المذنب في حقك؟
عشت ساعة واحدة كانت بعمري كله، تلك الساعة كانت كافية لكي أضمك لصدري، لكي أحتضنك، لكي أشم كل قطعة في جسمك، لكي أنقلك لمستشفى آخر أكثر تطورا ولديه إمكانيات لمعالجتك لأنك ولدت قبل موعدك غير مكتمل النمو؟
أنا الملوم يا ولدي، أنا الجاني عليك.
حبيبي، أأنت طائر من طيور الجنة الآن؟ تنتقل من وردة إلى أخرى.
آه يا صبحي كأن موتك قد فتح الباب لأخيك عمر وقيس ليريا النور، فلولا أنك غادرتنا لم أحتفل بمولدهما، كأن الموت هو الطريق إلى حياة جديدة، أليس الموت هو الطريق إلى العالم الآخر؟
بعد ٢١ سنة أصبح لك أخوان لم يعوضاني عنك لكن جاءا ليذكراني بك كل لحظة.
لو بقيت حيا حتى اليوم ٢٠١٠ لكنت اليوم في سنتك الثامنة والعشرين، شابا يافعا وربما أصبح أبا، وكنت أنا جدا.
ليتك بقيت معنا، لتقف معي في محنتي وتسند ظهري عندما تقوسه السنون، وترد عني الذئاب المنتشرة في غابة هذا الزمان.
نعم أنت موجود معي، لم تغب عن بالي رغم أنني لم أرك من قبل، لكنني رسمتك في خيالي كما رأيتك في أحلامي، هل تذكر كم مرة جئتني زائرا وأنا أغط في نوم عميق؟؟
صورتك لا تشبه وجه أخيك عمر ولا أخيك قيس، كنت مختلفا بعض الشيء.
أيها الصبح، أيها الابن، الذي طل في الصباح وغاب عنا، كان صبحا جميلا، كنت صبحي المفضل، غاب الجسد وبقيت روحك تحلق حولي أينما رحلت، حبيبي الغالي، أستودعك الله وإلى لقاء قريب في جولة أخرى من نبش الذاكرة.
يا رب يا ولدي تقودني ووالدك بيديك الصغيرتين للجنة، وفي ظل الرحمان يوم لا ظل إلا ظله.