/B_rub>
كان أحد أفراد قوة حرس الحدود الإسرائيلية التي ترابط في نقطة التفتيش القريبة من مفترق طريق رام الله، ضاحية البريد. كانت مهمته التدقيق في بطاقات هويات المارين عن الحاجز باتجاه القدس. من يحمل بطاقة زرقاء يسمح له بالدخول أما سكان الضفة الغربية فلا يسمح لأحد منهم عبور الحاجز إلا من كان يحمل تصريحا رسميا صادرا عن الجهات الرسمية الإسرائيلية، لم يكن يدقق في السيارات فتلك مهمة جندي آخر.
مهمته سهلة ففي العادة كل الذين يتجاوزون نقطة التفتيش من المشاة يكونون من سكان القدس الذين يحملون البطاقات الزرقاء، فسكان الضفة يعرفون بأنهم إن حاولوا اجتياز الحاجز سيتعرضون للاعتقال، لذلك يحاولون العبور عبر طرق التفافية وعرة بعيدا عن أعين الجيش. وهي مخاطرة قد تؤدي بهم إلى السجن وما أكثر السجناء منهم.
كان الجندي سمير من الدروز في فلسطين، الذين يخدمون إلزاميا في إسرائيل بعد أن وقع زعماؤهم في الماضي اتفاقا مع الحكومة للخدمة في الجيش مقابل مساواتهم في الخدمات الاجتماعية المقدمة إلى اليهود. بعضهم كان يرفض الخدمة ويتعرض للاعتقال لمدة سنتين هي مدة الخدمة الإلزامية بدافع الشعور بالانتماء العربي الفلسطيني، ولكن غالبيتهم كانوا يفضلون الخدمة ليوفروا على أنفسهم السجن وليستفيدوا من الخدمات المقدمة للخادمين في الجيش. كان يحدث المارين بالعبرية لا بالعربية، لكي يحظى برضى الضابط «يوسي» المسؤول عن الدورية، يسأل كل مواطن عربي سؤاله الروتيني:
– تعودات زهوت؟(بطاقة الهوية)
فيقدم له المواطن بطاقته.
ينظر إليه، يتأكد من الصورة ثم يشير له بيده للعبور. أحيانا يسأل أحد المارين:
– اسمك؟
– تاريخ ميلادك؟
يريد التاكد أن حامل البطاقة هو صاحبها. كان يتساهل مع النساء، خصوصا الصبايا. ويرمقهن بنظراته الغريبة ناسيا أنه جندي إسرائيلي وأن المارين يكرهونه.
في أحد المرات لمح طالبة مدرسة جميلة، كان شعرها المتدلي على كتفيها يثيره. عندما نظر إلى بطاقتها، قرأ اسمها وتاريخ ميلادها قال لها بالعربية:
– شادية اسم جميل.
نظرت إليه، استغربت بأنه يتحدث العربية بطلاقة، احمر وجهها.
سألها:
– في أي مدرسة يا شادية؟
– في راهبات الوردية.
– وتذهبين إلى هناك مشيا على الأقدام.
يا له من وقح، ماله ولها، شعرت بالغضب لكنها مضطرة للإجابة حتى لا يعطلها.
– الجو دافئ والمسافة ليست بعيدة.
كان الناس الواقفين على الدور ينتظرون دورهم على أحر من الجمر، لاحظ الجندي تذمرهم. أعاد لها البطاقة وقال لها:
– أنا محسوبك سمير، أرجو أن ألتقي بك خلال الإجازة.
دق قلبها فزعا، التقطت بطاقتها ثم تابعت سيرها.
في اليوم التالي كان ينتظرها، حاول بطريقته الحصول على رقم هاتفها الخلوي، ونجح في ذلك، ربما لخوفها منه، قال لها:
– شادية، أنا فلسطيني مثلك، لا تنظري إلى كعدو أنا أخدم إلزاميا في الجيش.
– لكن يمكنك رفض الخدمة كما يفعل كثيرون من الدروز.
هز رأسه وقال لها:
– كنت مترددا منذ البداية، اعتقدت أنني سأخدم في مكان في داخل إسرائيل لأتفادى السجن، لكني لم أوفق. على كل أنا أتمنى أن تتاح لي فرصه اللقاء بك. بعد أسبوع سأحصل على إجازة من الخدمة لمدة أسبوعين.
– لقاء مع جندي؟!
– شادية أنا عربي فلسطيني. صحيح أنا درزي لكن الدروز عرب، سميح القاسم درزي وأشعاره تلهب الحماس.
ترددت، لم تجب، قال لها:
– لا أريد للضابط أن يشعر بنا، سأتصل بك بعد يومين.
تركته شادية وهي محتارة في هذا الجندي الذي يتمادى في التحرش بها.
(لا شك أنه شاب لطيف، يعاملها برفق وأدب لم تشعر أنه يعامل أحدا بقسوة رغم أن المواطنين الفلسطينيين يشكون دائما من الجنود الدروز بأنهم أسوأ من اليهود).
اتصل بها بعد يومين.
– ألو من المتلكلم.
– أنا سمير، كيفك شادية، لا تتصوري مدى إعجابي بك، صدقيني أنا صادق في حديثي معك، لا أريد خداعك، لقد دخلت قلبي، سأنتظرك غدا صباحا في سيارتي، بعد أن تعبري الحاجز لانقلك إلى المدرسة. لا تتأخري، إلى اللقاء، أحبك، وأرسل لها قبلة عبر الهاتف.
– سمير، يريد لقائي؟!
كانت شادية تخاطب نفسها، هل أذهب، أم أرفض؟ هل أحاول الغوص في داخله؟ إنه وسيم، تتمناه كل فتاة لكنه جندي. هل أحاول إقناعه بخلع ملابس الجندية؟
في اليوم التالي كان بانتظارها، ما أكبر الفرق بين الشخصيتين هناك كان جنديا، يحظى باحتقار المواطنين العرب، اليوم يبدو كأنه شاب في ليلة زفافه. قالت له وقد صعدت إلى سيارته الأودي:
– لماذا لا تترك الخدمة في الجيش؟
– لقد فات الأوان يا شادية بقي لي سته أشهر وبعدها ينتهي كل شيء.
– وماذا لو مر أحد المواطنين عن الحاجز ولم يلتزم بالأمر وهرب فهل ستطلق عليه النار.
– يا شادية لا تحرجيني بأسئلتك.
لم يطل بهما الحديث فقد وصل بسيارته إلى المدرسة، عبر لها عن سعادته بلقائها وودعها. قال لها:
– سنلتقي.
واتفقا على موعد آخر خلال العطلة الأسبوعية، توالت اللقاءات، كأنها بدأت تميل إليه، نسيت أنه جندي إسرائيلي كأنه سحرها برقة حديثه وتأكيده على انتمائه لفلسطين وللعرب، بعد أسبوع وبينما كان يسير معها على شاطئ نتانيا، قال لها:
– شادية أنا أحبك وأرغب بالزواج منك.
فوجئت بقراره.
– أأتزوج جنديا؟
– شادية، قلت لك أنني سأنهي الخدمة قريبا إن أحببت أتركها الآن لكن سأحرم من اللقاء بك مستعد أن أنتقل للسكن في القدس.
– اتركني أفكر.
جلس معها على الشاطئ ينظر وإياها إلى البحر اقترب منها، وضع يده على كتفها وقال لها:
– انظري ما أجمل البحر! انظري إلى أمواجه المتلاطمة، كأنها عاشقان تعانقا بحرارة.
رفع يده إلى شعرها بدأ يتحسسه، نظر إليها، قال لها:
– شاديه لن أسمح لأحد أن يأخذك مني. نحن خلقنا لنكون معا، من يدري ربما شاء الرب أن أكون جنديا لأتعرف عليك هناك.
– أحست بحرارة يده، اقترب من وجهها، شعرت بأنفاسه طبع قبلة على شفتيها، تراخت قليلا كأنها أحست بعذوبة اللقاء.
– عادت في المساء إلى بيتها في القدس بعد أن أوصلها إلى باب بيتها.
دخلت البيت فاستقبلها أبوها بسؤال لم تتوقعه:
– أين كنت يا شادية؟
– كنت في زيارة لدى صديقتي.
– من صديقتك هذه.
– فاطمة.
– فاطمة من؟
– فاطمة أبو رموز.
– حسنا أعطني رقم هاتفها لو سمحت؟
فوجئت بطلب والدها،
– رقم هاتقها؟... أعتقد أنني لا أحفظه.
نظر إليها وقد شاهد ارتباكها، قال لها بصوت آخر:
– أعطني هاتفك الخلوي؟
فتحت حقيبتها النسائية وقدمت الهاتف لوالدها، وهي ترتجف حمل الوالد الهاتف وبدأ يراجع بأرقام الهواتف حتى وصل إلى فاطمة، اتصل بها فردت فاطمة على الفور.
– مرحبا شادية، أين أنت لم أسمع صوتك اليوم.
قال لها أبو شادية.
– مرحبا آنسه فاطمة، أنا أبوها لشادية، لقد نسيت الهاتف في البيت عندما خرجت من البيت بعد الظهر لزيارة زميلة لها فاعتقدنا أنها جاءت تزورك.
– لا لم أرها اليوم يا عمي، ربما ذهبت عند ميسون.
– شكرا لك فاطمة.
احمر وجه شادية، فدخلت إلى غرفتها مسرعة وهي تحسب حساب المواجهة.
لحق بها أبوها وقد لحقته أمها وأخوها عماد.
– أين كنت يا شادية؟ إما الاعتراف بالصدق وإلا حل عليك غضبي. إياك أن تقولي عند صديقتي.
صمتت لم تجب، فماذا تقول، لم تعرف الكذب، ولن تتقنه.
– أطلب الأمان قبل أن أتكلم.
– هذا يتوقف على الجرم الذي ارتكبته. مع أي شاب كنتِ اليوم؟
خافت، فأبوها لم يعطِها الأمان. تأتأت، وقالت لقد وعدني بالزواج.
– ومن هذا الذي وعدك بالزواج، وماذا حصل بينكما، وأين؟
– اسمه سمير، التقيته اليوم، كنت معه في نتانيا.
– نتانيا؟ يا فرحتك يا أبا عماد؟
هوى على وجهها بالكف فسقطت على الأرض، صرخت فيها أمها: في نتانيا يا شادية، هذه ثقتي بك. اتفوه عليك. اقترب منها أخوها رفعها عن الأرض وقد ثارت حميته، قال لها بغضب:
– قلت اسمه سمير، سمير من؟ من أي عائلة، أجيبي؟
– إنه من عرب الداخل.
– ما اسمه بالكامل؟
– سمير طريف.
– هز أبوها رأسه، سمير طريف إنه درزي، كيف تعرفت عليه، هل هو جندي إسرائيلي.
هزت رأسها وقالت:
– لكنه سيترك الجيش، إنه يخدم إلزاميا.
بدأ أبوها يرقص ويقول:
– يا حبيبي، بنتك يا عطا الله تحب جنديا إسرائيليا، الفضيحة فضيحتان. والعار عاران.
– لكنه عربي فلسطيني، لقد أكد لي ذلك ويريد أن يتزوجني.
مسكها من شعرها بقوة وقال لها:
– هل حصل بينكما شيئ؟ هل نام معك؟ لا تكذبي سأفحصك، سأقتلك لو حصل.
– والله لم أنم معه، والله العظيم.
– كيف ضحك عليك، كيف تصدقينه، هل هذا ما علمتك إياه؟
جندي إسرائيلي؟!
هل صدقتِ إنه فلسطيني أو عربي؟ من يلبس ملابس الخدمة في الجيش الإسرائيلي ليس عربيا وليس فلسطينيا إنه إسرائيلي. من يصوب سلاحه تجاه أبنائنا وبناتنا ليس فلسطينيا ولا عربيا، من يقبل أن يخدم في جيش عصابات احتلت أرضنا وطردت شعبنا، ليس فلسطينيا بإمكانه رفض الخدمه كما رفضها غيره، بامكانه اختيار السجن على الخدمة بجيش الاحتلال.
وأنت تختارين جنديا إسرائيليا؟
ضربها بيديه عدة لكمات ثم خرج من الغرفة تاركا أمها وأخوها يتابعون الموقف.
كل العائلة أصيبت بالصدمة، الوالدان وأخوها وأختها لم يصدق أحد أن شادية تقع فريسة في يد جندي إسرائيلي، لا أحد يؤمن أن سمير طريف من العرب، فقد قبل الخدمة بالجيش ولا يستحق سوى أن يعامل كما يعامل الأعداء والمحتلون.
منعت شادية من الخروج من البيت، وبعد شهرين كان أبوها قد وافق على خطبتها لرجل يكبرها بثلاثين عاما قادما من الولايات المتحدة، وقد هددها إن رفضت، قالت له:
– لكنه كبير في السن.
– أعرف ذلك، إنه عقاب لأنك لطخت شرفنا وسمعتنا في الوحل، وهو أشرف مليون مرة من فلسطيني مزيف يخدم في جيش العدو.
بعد شهرين آخرين، كانت شادية في الطائرة المتجة إلى نيويورك، أما سمير الذين أعياه الاتصال بها فقد عرف بعد أن أصبح رقم هاتفها خارج الخدمة وعدم ذهابها إلى المدرسة أنها ضاعت منه.
قال لنفسه وهو ينهي الخدمة في الجيش:
– يبدو أن الخدمة في الجيش الإسرائيلي لم تعد مجرد طريقة للهروب من السجن، إنها محك الانتماء إلى الوطن، إما الانتماء إلى فلسطين، أو إلى إسرائيل. ويؤسفني أنني اخترت الثانية.