/B_rub>
لا زلت أذكره، فكيف يغيب عن بالي وهو الذي لم تكن بسمته تفارق وجهه؟ يا له من صديق، كان الجلوس معه ينسيني كل هموم الدنيا التي كنت أحملها على أكتافي منذ صغري. ليته اليوم معنا لنأنس به، ونستعيد معه بعض ذكريات الشباب الذي لن يعود.
عندما تعرفت عليه قال لي:
– أكثر ما يحببني بنادي الموظفين في القدس، أنه عرفني عليك. لماذا عدت من أمريكا بعدما وصلتها؟
– لأتعرف عليك يا نسيم
ضحك نسيم، ومنذ تلك الأيام ضمني إلى قائمة أصدقائه المخلصين،
وعندما قرر إقامة حفلة في بيته بمناسبة عائلية كنت واحداَ من المدعوين، تبادلنا الأحاديث الطيبة والنكات وكانت مناسبة من الصعب علي نسيانها بعد ذلك.
كان نسيم واحداَ من شباب النادي النشطاء، أحبه الجميع حتى من كانوا يختلفون معه في الرأي، وعندما أخبرنا بعض الأصدقاء أن عمال مطعم أمية قد أعلنوا الإضراب مطالبين بحقوقهم فقد كان أول المشاركين معهم وكانت وقفته كبيرة رغم أنه كان عاملا حديث العهد ليس له أية حقوق.
لم نفرح كثيرا بصداقته فقد أعلن أنه سيغادرنا للدراسة في الولايات المتحدة .
– هل صحيح قررت الدراسة في الولايات المتحدة يا نسيم؟
– نعم، فيجب أن أكمل تعليمي.
– يا نسيم هكذا تريد أن تتركنا؟ دعك من الدراسة يا رجل لنبقى في الوطن فهو أفضل من الغربة.
– أعرف ذلك، لكن لا تقلق، فسوف أعود والدليل أنت ألم تعد؟
لم يبق لي ما أرد عليه، كنت أعرف أهمية الدراسة لكن الأصدقاء لا يحبون أن يفترقوا؟ ولماذا عليهم التضحية بعلاقاتهم اليومية من أجل الدراسة؟
بعد أيام كان نسيم زيد في أمريكا. كانت تصلنا أخباره من أخته أولاً بأول.
كلما رأيتها بالشارع أسألها :
– كيف أخبار نسيم؟
– بخير وهو يسلم عليك ويقول لك سوف يعود
– حقا؟ متى؟
– عندما يتخرج من الجامعة
أضحك وأقول لها : نحن بانتظار ذلك اليوم على أحر من الجمر
لم أكن أعلم أن شوقي لعودته سيكون لعنة عليه يوما ما، لم أعرف أنني سأتمنى يوما ما لو لم يعد نسيم وبقي في أمريكا. ليته لم يعد فعلا لكان لي هنا اليوم في أمريكا صديق من أيام الشباب.
لمحتها فجأة في شارع صلاح الدين، كانت تلبس الأسود وتسير شاحبة الوجه، توجهت نحوها بسرعة ، ناديتها ، وقبل أن تقول شيئا قلت لها :
– يبدو أن أحداً من العائلة قد ...
بكت وبدأت تذرف الدموع قلت لها:
– عظم الله أجركم، شدي حيلك ، هل أعرف الميت؟
نظرت في وجهي واستمرت في البكاء، كانت على وشك أن تضع رأسها على كتفي وتفرغ كل دموعها المخبأة عليه، لكنها خجلت من الفضوليين في الشارع.
أعدت سؤالي عليها
– من الميت؟ هل أعرفه أو أعرفها؟
هزت رأسها
– لا بأس اصبري، من هو يا ترى؟
– أكل هذا وتسأل؟ ألم يخبروك؟ ألم تسمع من أحد؟
أصبت بقشعريرة، اهتز بدني ، لا بد إنه هو ، وإلا فلماذا أسأل؟
– وهل مات هناك؟
– لا لقد استشهد؟
لم أصدق، نسيم استشهد في أمريكا ؟! سألتها:
– كيف؟ أخبريني.
– لم يبق في أمريكا، فقد عاد بعد احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، ذهب من أمريكا إلى لبنان ليدافع عن بيروت، أرأيت ترك فلسطين ليدافع عن لبنان. كأنّ لبنان بحاجة لمقاتلين؟
صدني الخبر، لم أستوعب ما أسمع، من فلسطين لأمريكا لبيروت عام 1982 ليستشهد هناك! تغير لوني، وأصبت بدوار ، شاركتها البكاء، فالبكاء أحيانا يريح الأعصاب ، كأنه ضريبة يؤديها الإنسان لمن يحبهم برضى من النفس.
سألتها متى سيبدأ العزاء في بيتكم؟
– غدا الساعة الخامسة
– حسنا سأكون هناك
ودعتها وأنا حائر ، لا أعرف أين أسير.
لم يتحمل نسيم خبر احتلال جنوب لبنان، فقرر أن يسافر إلى لبنان في حزيران 1982 ليدافع عن بيروت، قال له أصدقاؤه
– ماذا تستطيع أن تفعل أكثر مما يفعله المقاتلون هناك؟ لا تذهب لأن إسرائيل سترتكب المجازر هناك.
لم يسمع كلامهم فسافر عن طريق أحد المعارف، وهناك حمل السلاح دون أن يتدرب عليه مجرد تدريبات بسيطة وكان يدافع عن بيروت.
كان يقول لرفاق السلاح:
– ليس لي أهل ولا أقارب هنا، لكنني أشعر أنني أدافع عن فلسطين، أدافع عن القدس، لن يمروا إلى بيروت إلا على جثتي.
كان آخر أيامه في أحد المواقع الأمامية مع مقاتلين آخرين. فجأة تقدمت دبابة تحاول اختراق الشارع، اختبأ نسيم ورفاقه، وعندما اقتربت أطلق عليها كل منهم قذيقة آر بي جي فدمرت بالكامل. فتحرك وراءها عدة دبابات يطلقون النار بكثافة كبيرة فاختبأ نسيم ورفاقه : نظر نسيم إليهم وقال :
– اسمعوا لن نتركهم يمروا، لن يمروا إلى بيروت إلا على جثتي.
المجنزرات تتقدم، لا بد من عمل، قفز في الشارع فجأء يحاول أن يطلق قذيفة أخرى لكن رصاصهم سبق قذيفته فسقط على الأرض، كان يعرف أن ساعته قد حانت ، ظل يزحف حتى أصبح في وسط الشارع، وهناك توقف ثم أسلم الروح، لم يكن أمام الدبابات في ذلك الشارع الضيق إلا أن ينزلوا لسحبه، ويعرضوا أنفسهم لرصاص المقاتلين أو يسيروا فوق جثته فتتحقق كلماته:
لن تمروا إلى بيروت إلا على جثتي.