/B_rub>
قررت هذا العام أن أقضي شهر رمضان المبارك في السعودية لدى أهلي وأقاربي في بلدي الذي ولدت، وعشت فيه طفولتي، فرمضان في أمريكا ليس له طعم ولا نكهة، وهي فرصة للراحة والعبادة، فقد قررت أن أبقى هناك حتى عيد الأضحى المبارك.
لأول مرة أنجح في إقناع حفيدتي «سندي» بمصاحبتي بتلك الرحلة، لعلي أستطيع أن أنير قلبها بالإسلام إذ ما تزال مترددة لم تحسم أمرها بعد خصوصا وأنها تعيش مع صديقها «جمي» الذي يحرضها دائما علي.
لا أعرف إن كانت «سندي» قد وافقت على مرافقتي حبا للسفر مع جدتها أم لأنها تطمع أن ترث بعض أموالها بعد أن تحظى بمزيد من حبها، فأنا الآن على مشارف 71 عاما لا يفصلني عن الموت سوى شعرة قصيرة.
منذ خمس سنوات وأنا عازمة على التقاعد عن العمل، والانتقال للعيش في الإمارات ما تبقى من عمري فلم أعد أشعر بالراحة في الولايات المتحدة رغم أنني عشت فيها حوالي 50 عاما ولي فيها أسرة كبيرة من الأولاد والأحفاد.
كل عام أقول بأنني سأتقاعد في العام الذي يليه، وها هي الأعوام تمر دون أن أصل إلى قرار حاسم. لا أدري إن كانت المحلات التجارية التي أديرها هنا هي السبب، أم أن عدم رغبتي بترك الأولاد (رغم أنهم يعيشون بعيدا عني)، أم لأنني تعودت على التردد ولم أعد حاسمة في اتخاذ القرار؟ لا ينقصني للانتقال إلى الإمارات أي شيء، فلي هناك بيت واسع يطل على البحر ثمنه أكثر من مليون دولار، حفيدتي «سندي» الأقرب إلي كانت تسألني دائما:
– لماذا تريدين التقاعد في الإمارات؟
– لأنني لم أعد أشعر بالراحة في هذه البلاد.
– ولكنك عشت فيها أكثر من مما عشت في السعودية أو الإمارات.
– أليس غريبا بعد كل هذه السنين أن أشعر بالغربة هنا؟
إنها الغربة عن المجتمع.
– لكنك يا جدتي تلبسين الحجاب وملابس طويلة على غير عادة الناس هنا. قال لي جدي قبل وفاته أنك لم تكوني كذلك عندما جئت معه من فرنسا.
لا أعرف ماذا أقول لها، كيف أفسر لها الأمور، أحيانا مشاعر الكبار لن يفهمها الصغار خصوصا إذا عاشوا وتربوا في ثقافة أخرى. لا أدري من المسؤول عن ذلك، هل هو أنا أم هو؟ أم الحب أم أن قدرنا الذي جرنا إلى تلك المواقف؟
عندما أنظر إلى النتيجة أشعر أن البداية كانت غامضة يشوبها التسرع، وعندما أتذكر بدايتنا الحلوة أشعر أن النهاية ما كان يجب أن تكون هكذا.
خيط مفقود بحثت عنه فلم أجده. لا أعرف بعد هذا العمر الطويل، هل يستطيع الحب أن يصمد وحده في الطيران؟ أم أنه مثل أي طائر قد يتساقط ريشه فلا يقوى على متابعة التحليق في الفضاء فيسقط على الأرض ليصطاده الأطفال بسهولة؟ هل تخدع القلوب أصحابها؟
هل مات زمن الحب؟ أم أننا في طيش الشباب لا نميز بين الحب الحقيقي، وبين المشاعر الآنية المتأججة المحكومة بالجسد ومشاعر الجنس، ونظرات العيون، لا نبحث عن صفاء الروح، ولا عن الأفكار؟
عندما أرسلني والداي رحمهما الله بعد إلحاح للدراسة في فرنسا كانا خائفين علي هناك، وأوصياني أن أهتم بدراستي لأكون مثالا للفتاة السعودية، وأن لا أخالط الشباب أو أقع في شباكهم، التحقت في كلية الفنون في باريس فقد كنت أطمح أن أكون فنانة تشكيلية لأنني كنت أعشق الرسم والألوان. هناك تعرفت على طالب فرنسي يدعى «فرانسوا»، شعرت بميل عاطفي تجاهه فنسيت كل نصائح والدي وتوجيهات أمي وتزوجنا سرا بعد عدة شهور.
وعندما أخبرت والدي جن جنونهما، وقررا الحضور إلى فرنسا لإنهاء ذلك الزواج بالقوة، فهربت مع «فرانسوا» إلى الولايات المتحدة، واخترنا ولاية بعيدة، من النادر أن تجد عربيا يعيش فيها، إنها ولاية «أرِغِن» التي تقع على المحيط الهادي شمال ولاية كاليفورنيا وجنوب ولاية واشنطن.
كافحنا طويلا أنا و«فرنسوا»، وأسسنا عائلة، فقد أنجبت أربعة أطفال، ولدين وبنتين، أصبحوا الآن آباء بل بعضهم أصبح جدا. الابن الأصغر انتقل للعيش في كاليفورنيا، والبنت الكبرى تعيش في تكساس، أما البنت الصغرى فتعيش في نفس الولاية مع زوجها وأسرتها، لكن ابني الأكبر يقبع الآن في السجن، إذ يقضي فترة عقوبة مدتها عشر سنوات بتهمة الاتجار بالمخدرات وقد تركته زوجته، وأنا التي أتابع شؤون بناته. إحدى بناته اتجهت للعمل في مجال عرض الأزياء، في كاليفورنيا أما «سندي» الأكبر سنا فهي تعيش مع صديقها، وهي التي سترافقني إلى السعودية. ولا أعلم أين حطت الأقدار بالثالثة.
كنت مجنونة عندما اعتقلته السلطات الأمريكية فسألته:
– لماذا فعلت ذلك يا «مايك»؟ أينقصك فلوس؟
ـ هز رأسه قائلا :
– لا يا أمي، لكن يبدو أن كثرة الفلوس أحيانا تدفع صاحبها للتفكير في الاتجاة الخاطئ.
حاولت معه كثيرا لكنه لم يتغير.
علاقتي مع «فرانسوا» فترت بعد عشر سنوات من الزواج.
نار الحب التي جمعت بيننا خمدت مثل جمرة نار تحولت إلى رماد.
بدأت المشاكل تزداد يوما عن يوم. لا أدري إن كانت نظرتنا إلى الأولاد وتربيتهم هي السبب. فقررنا الانفصال بعد 15سنة زواج، وقد عاش الأولاد عنده وكانوا يزورونني كل أسبوع فعاشوا في جو أبوين متناقضين في التربية والتعليم. تأثير «فرانسوا» بلا شك كان الأكبر خصوصا لأنه لا يختلف عن تأثير المدرسة والمجتمع، فكانت أسرتي مزيجا من الشرق والغرب.
ابني الأصغر كان كاثوليكيا، أما الأكبر رغم أنه تجاوز الخمسين من عمره فلم يقرر بعد أي دين سيختار، يقول لي أنه مسلم ويقول لأبيه أنه مسيحي. أما البنات فكانوا أقرب لي لأنهن كن يترددن علي لكنهن لا يطبقن الشريعة الإسلامية بشيء سوى الشهادتين واعتبار نفسيهما مسلمات. أما الأحفاد فقد تنصر معظمهم ومن اختار دين جدته فقد اختارها شكلا لا أكثر، مثل حفيدتي «سندي» التي تعد نفسها مسلمة وتعيش عند صديقها.
منذ مجيئنا إلى الولايات المتحدة أنا و«فرنسوا» جاهدنا لتأسيس أنفسنا ونجحنا وكونا شركة كبيرة لبيع الجلود والملابس الجلدية التي كنا نستوردها من باكستان، وعندما انفصلنا تابع كل منا تجارته لوحده واستطعت رغم الانفصال النجاح. وقد أعدت علاقتي مع أهلي بالتدريج الذين وافقوا على ذلك بعد انفصالي عن «فرانسوا» لكنهم ظلوا ينظرون لي نظرة الذي وقع في الخطيئة. لعل ما خفف حملة الكره علي أنني عشت بعيدا عنهم، فكانوا يقولون للناس أنني تزوجت فرنسيا مسلما، ليداروا فضيحة ابنتهم.
منذ عودة علاقتي مع أهلي زرتهم أكثر من مرة حتى وفاة أبي وأمي قبل عشر سنوات. مات الاثنان في عام واحد.
فكان عاما كله حزن بالنسبة لي. أعرف أنني لم أدخل السعادة في قلبيهما بعد زواجي من «فرانسوا»، لذلك كنت الابنة العاقه لهما. بعض الأقارب لا يقبلون التعرف علي حتى الآن ويعدون ما فعلته بأنه هروب مع عشيق فرنسي.
ويصفون الأولاد بأنهم أولاد زانية.
زرت ابني البكر في سجنه خلال 8 سنوات مرة واحدة، ففي أثناء زيارتي له قبل سبع سنوات في السجن الفدرالي في مدينة «ليفنوورث» في ولاية كانزاس كان السجناء ينظرون إليه نظرة غريبة. كلهم يتهامسون علينا وعندما شعر بذلك فقد شعر بالإحراج، غضب وقال لهم بلهجة حادة:
– ماذا تريدون منا؟ لماذا تنظرون إلينا نظرة غريبة؟
ـ سأله أحد السجناء الذي يعرفه:
– من هذه يا «مايك»؟
– إنها أمي، ألم أقل لكم سابقا؟ أنا نصف عربي ونصف فرنسي، أمي سعودية.
– أمك سعودية؟!! من بلد البترول؟
– من بلد البترول لكنها لا تملك بترول.
ـ فرد آخر:
– من بلد بن لادن؟
ـ لم يتمالك مايك الوضع فاتفق معي أن تكون تلك زيارتي الأخيرة إلى السجن. لعل لبسي الحجاب كان مثيرا لهم فأنا منذ عشرين سنة، بدأت بلبس الحجاب وكان لباسي أكثر احتشاما من قبل، لا أدري لماذا هذا الهدى الذي نزل علي مرة واحدة.
رغم علاقتي الحسنة مع أولادي الذين يشبهونني أكثر من أبيهم أعترف أنني فشلت في أن أربيهم حسبما أتمنى، وبعد أن كبرت وبلغت من الكبر عتيا أتساءل:
– هل حققت حلمي الذي كنت أتمناه في هذه الحياة؟ أم أن أحلامي وأنا صبية كانت مجرد أوهام؟ لماذا لم يصمد حبي مع «فرانسوا» وانهار بسرعة مثلما تنهار بناية آيلة للسقوط؟
– ما الذي يشدني إلى السعودية بعد هذا العمر الطويل، لأقضي هناك فترة شهر رمضان المبارك وحتى عيد الأضحى؟
– لماذا هذا الانقسام في الحنين إلى الأوطان؟
لم أتردد في الطلب بمنح أولادي الجنسية السعودية وقد نجحت في الحصول على جوازات سفر سعودية لهم. وحاول أبوهم منحهم الجنسية الفرنسية فيما بعد لكن السفارة الفرنسية رفضت ذلك لأن القانون لا يسمح بجنسيات ثلاثة.
الموعد للسفر يقترب ورمضان على الأبواب. إنها فرصة للتعبد والتكفير عن ذنوب كثيرة ارتكبتها في حياتي، من منا بدون ذنوب فليرجمني بحجر.
هل كان والداي على حق عندما اعترضا على زواجي؟
ـ كثيرا ما أتساءل:
– لماذا نعد - نحن الأبناء - دائما نصائح الآباء بأنها تدخل غير موفق في شؤوننا؟ وعدم فهم لمشاعرنا وأحاسيسنا؟ ألا يمكن أن يكون الآباء أحيانا أبعد نظرا من أبنائهم المنقادين بعواطفهم؟
أسئلة كثيرة تتوارد إلى خاطري، أعترف أنني لا أجد لها أجوبة شافية ترضيني.