/B_rub>
شعبان ولد صغير، طالب مدرسة شقي لدية الكثير من الأصحاب، عمره ١٢ سنة، ينتمي لعائلة فقيرة. كان يسكن عام 1965 مع أهله في باب السلسلة، في القدس القديمة، وكان يتعلم في المدرسة البكرية التي تقع بالقرب من باب الأسباط وقرب أحد المداخل للمسجد الأقصى المبارك.
لشعبان صديق أقل عمرا منه (١٠ سنوات) يدعى صابر يسكن قريبا من بيته في منطقة تسمى درج الطابون، لها مدخل من الجهة العلوية لباب السلسلة، ويقع في مدخلها مخبز الأمانة المملوك لعائلة سنقرط الذي كان أحد المخابز الرئيسية لسكان القدس. كان صابر طالبا في نفس المدرسة، وكان يذهب إليها مشيا على الأقدام مع شعبان، حيث يتوجهان إلى الحرم الشريف الكائن في آخر باب السلسلة من الأسفل ومن هناك يدخلان الحرم متجهين إلى الباب المقابل، باب المدرسة البكرية، وهي مسافة خمسة دقائق سيرا على الأقدام، لكنهما أحيانا عندما يغادران البيت مبكرا، يتوجهان إلى المدرسة عبر الشوارع العادية ليمضيا الوقت متسكعين في الشوارع مراقبين حركة الناس، والبسطات وباعة الجرائد.
في أحد أيام شهر آذار ١٩٦٥، كان شعبان وصابر عائدين من المدرسة، عن طريق «باب خان الزيت» و«سوق العطارين» المكتظ بالناس، وكانا يتجولان مستمتعين بالعدد الهائل من الناس.
فجأة لمحا طفلا قريبا من عمر شعبان يحمل كيسا صغيرا لا يعرفان ما فيه. اقتربا منه، وسأله شعبان:
– ماذا تحمل في الكيس؟
– هدايا لأمي بمناسبة عيد الأم الذي يصادف بعد أيام.
– عيد الأم؟
نظر شعبان إلى صابر مستغربا، فلم يكن شعبان ولا صابر يعرفان عيد الأم، ولا عيد ميلاد، كل ما كانا يعرفانه عيد الفطر، وعيد اِلأضحى حيث يأخذ الواحد منهما قرشين من أبيه وبعض القروش الأخرى من بعض أقاربهما، فيصرفانها على الألعاب، والملاهي التي كانت تقام قرب باب الأسباط التي أصبحت الآن مكانا لوقوف السيارات.
سأل شعبان صابر:
– عيد الأم، هل اشتريت لأمك شيئا؟
– لا طبعا؟ ماذا يعني عيد الأم؟
تركا الولد في حاله، وهمس شعبان في أذن صابر واتفقا على خطة.
لحقا بالولد في وسط سوق العطارين الضيق. وسألاه أن يريهما الهدايا لأنهما سيشتريان مثلها، وقف الولد فتح الكيس وكان به محفظة نقود نسائية مع مرآة، وفرشاة شعر جميلة، خطف صابر الكيس ورماه إلى شعبان حسب الاتفاق، فهرب شعبان بالكيس، فوجئ الولد بذلك ولحق بشعبان لاستعادة الهدايا.
في هذا الوقت هرب صابر من الاتجاه الآخر لسوق العطارين باتجاه حي القرمي، وإلى باب السلسلة، فدرج الطابون، وهناك انتظر شعبان حسب اتفاقة معه. أما شعبان فكان سريعا في الركض، فقد دخل إلى سوق اللحامين ومن هناك إلى سوق الحصر ومن هناك إلى حارة الشرف، ثم إلى المدخل المؤدي إلى حوش الغزلان ثم توجه من هناك عبر حوش الشاي إلى درج الطابون.
كان صابر ينتظره وما أن رآه حتى ابتسم للغنيمة التي حصلا عليها.
الآن بإمكان كل منهما تقديم هدية لأمه في عيد الأم.
عند تقسيم الهديتين بينهما اختلفا فكل منهما يريد محفطة النقود، تشاجرا. فقد ادعى كل منهما أنه الأحق بها لأنه الأجدر. شعبان قال له إنه صاحب الفكرة، أما صابر فقال إنه هو الذي خطفها من الولد.
بعد خلاف طويل اقترح عليه شعبان أن يحتكما إلى عابر طريق فوافقا.
مر شاب يكبرهما كثيرا في السن فرأيا فيه حكما مناسبا. قالا له إنهما مختلفان على توزيع الهديتين وطلبا رأيه في التوزيع. لم يوضحا له أنهما سرقاها. فكر الشاب واقترح عليهما حلا مناسبا، قال لهما:
– أغمضا عينيكما وسأخبئ كل هدية في يد خلف ظهري ولا تفتحا عيونكما حتى أنتهي من ذلك، بعد ذلك كل واحد يأخذ الهدية التي تكون في اليد التي يطلبها.
– وماذا لو طلبنا نفس اليد؟ سأل شعبان.
– نعيد القسمة من جديد.
وافقا، فقال لهما:
– اغمضا عيونكما، ولا تفتحاها حتى أنتهي من العد للعشرة…
صمت ثم قال:
– ليبدأ صابر بالعدد، لكن لا تسرع.
– بدأ صابر بالعدد، واحد، اثنان، ثلاثة...
عندما وصل صابر رقم خمسة كان شعبان يحاول الغش فتح إحدى عينيه قليلا، ففوجئ أن الشاب اختفى، فتح عينيه كاملا بسرعة فلم ير سوى صابر يعد، صرخ بصابر:
– هرب الحرامي مع الهدايا، الحق.
لحقاه باتجاه السوق، فلم يعثرا على أثر له.
بدأ صابر يلوم بشعبان:
– أنت السبب لولاك لما حصل ذلك. لو قبلت بالقسمة كما اقترحتها عليك لما ضاعت الهديتان.
– بل أنت السبب، لو قبلت برأيي لما سرق الشاب الهدايا. وبينما هما يتعاتبان بالقرب من الحلاق زغلول المقابل لبسطة أبو زكي للخردوات التي كانت قائمة على مدخل طريق الهكاري، إذا بالولد الذي سرقا منه الهديتين يظهر لهما ومعه أبوه، فأشار الولد إليهما وقبل أن يستطيعا الهرب، أمسك الأب بجلابيبهما وبدأ الولد يضرب شعبان.
– أين الهدية يا كلاب؟ أليس عيبا أن تسرقا الهدايا؟ ألم يعلمكما أهلكما الأمانة؟
التم بعض المارة لحل الخلاف، فيما تدخل أبو زكي الذي يعرف الولدين لأنهما من حارته، وحاول تسوية الخلاف وتعهد لوالد الولد بأن يحصل ثمن الهدايا المسروقة من أهل شعبان وصابر ويدفعها له تعويضا عما حصل. ترك الوالد صابر وشعبان، وعاد كل منهما إلى بيته يجر أذيال الخيبة والفشل.
عاد والد صابر مساء إلى البيت، وقد عرف من (أبو زكي) حكاية صابر وسرقة الهدايا، وما إن وصل حتى صرخ بابنه:
– أين الهدايا يا حمار؟
شرح صابر لأبيه ما حصل، ولام شعبان على ذلك فصفعه أبوه على وجهه، وقال له غاضبا:
– منذ متى تعلمت السرقة؟
احتمى صابر بأمه التي حاولت تهدئة الموقف لكن الأب الغاضب لم يكتف بذلك، فخلع حزامه من بنطلونه وبدأ يضرب صابر الذي بدأ يصرخ من الألم ويحلف الأيمان أنه لن يعيدها.
نام صابر متألما من سياط أبيه، لاعنا شعبان، وكل ولد اسمه شعبان.
في اليوم التالي كان صابر يتناول الساندويش الذي أعدته له أمه في استراحة الساعة العاشرة وهو جالس منزويا في إحدى الزوايا، فإذا بشعبان يطل عليه، وما أن اقترب منه حتى بادره صابر:
– انصرف عني يكفي ما حصل لي بسببك.
ضحك شعبان، وقال له:
– هل ضربك أبوك؟
– لولا أمي لمت بين يديه، ألم يضربك أبوك؟
– تعودت على الضرب، كل أسبوع يضربني، لم أعد أحس شيئا، ما رأيك...
قاطعه صابر:
– لا تكمل، لا أريد أن أسمع شيئا منك.
– طيب، خلص، لن أتكلم شيئا، أعطني نصف الساندويش الذي معك، فقد حرمني أبي من الفطور هذا الصباح، ولم يعطني المصروف اليوم. جوعان يا صابر.
رفض صابر ذلك. تغير، وجه شعبان فلم يتوقع من صديقه ذلك، نزلت دموعه على خديه، ومشى تاركا صابر لوحده.
حزن صابر على شعبان، ورق قلبه عليه، فلا بد أنه جائع. صابر يعرف معنى الجوع، فقد جربه كثيرا، لطالما ذهب إلى المدرسة لا يحمل معه أي شيء، وكان ينظر إلى الطلاب الآخرين متمنيا أن يقدم أحد إليه ولو لقمة صغيرة تسكت جوعه. لحق صابر بشعبان وناداه:
– شعبان، شعبان.
نظر شعبان إلى صابر فرآه يقسم الساندويش بينهما ويقدم له نصفه. توقف شعبان عن البكاء، وبدأ يجفف دموعه بكم قميصه، اقترب كل منهما من الآخر، أمسك شعبان بنصف الساندويش بيده، نظر إلى صابر وهجم عليه يعانقه، عناقا كالكبار، ثم سارا معا يلتهمان ساندويش الزعتر والزيت بنهم شديد.