/B_rub>
تقع المدرسة العمرية الابتدائية في القدس، في البلدة القديمة، في وسط شارع طريق الآلام الممتد من شارع الواد حتى باب الأسباط، ويعتبر موقعها الأعلى في ذلك الشارع حيث يبدأ الشارع بعدها بالانحدار بالاتجاهين، فقد بنيت المدرسة على قمة جبل يقول المسيحيون أنها رحلة الانطلاق للسيد المسيح عليه السلام بعد أن حكم عليه الرومان بالإعدام حسب طلب اليهود من حاكم القدس آنذاك، وحملوه الصليب وقادوه إلى حيث صلبوه، كما جاء في كتبهم المقدسة. ففي ساحة المدرسة الأساسية يوجد حجر كبير يقول المدرسون والمترجمون أنه من هناك انطلقت رحلة السيد المسيح نحو طريق الآلام.
تقع المدرسة بمحاذاة المسجد الأقصى المبارك، حتى أن بعض صفوفها تطل على باحة المسجد نفسه، وكانت المدرسة العمرية حتى عام 1967 وربما بعدها بسنوات المدرسة الابتدائية الأولى في القدس. وتأتي بعدها المدرسة البكرية التي تبعد عهنا ٢٠٠ متر تقريبا.
ومن تحتها حفرت الحكومة الإسرائيلية نفقا يربط شارع الآلام إلى حائط البراق، أو المبكى الذي يتخذه اليهود كمعبد للصلاة، ولا يزال هذا النفق قائما حتى اليوم، رغم الاحتجاجات الدولية، والعربية سابقا، والفلسطينية، فلم تذعن إسرائيل ورفضت إغلاقه، ولم تستطع الدول الإسلامية حتى التي تقيم علاقة رسمية مع إسرائيل التأثير على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحفريات، وربما لم تكلف نفسها عناء طرح الموضوع مع حكومة إسرائيل.
في هذه المدرسة بدأت مرحلة تعليمي المبكرة، حيث التحقت بها عام 1964 وكان عمري آنذاك سبع سنوات، ولا أزال أذكر اليوم الأول من العام الدراسي (الثلاثاء الأول من أيلول سبتمبر 1964) كأنه حصل يوم أمس.
كنت أجلس في زاوية بعيدة من زوايا ساحة المدرسة خجلا، ولم أعرف أحدا من التلاميذ، فكنت مثل غريب ضائع لا يعرف ماذا يفعل.
كنت أحمل حقيبة فيها بعض الدفاتر وقلم رصاص، وممحاة، وساندويش نسيت ماذا كان.
بعد قرع الجرس اصطف الطلاب الجدد في طوابير وبدأ الأستاذ ينادي أسماءنا ليوزعنا على الصفوف. وعندما جاء دوري نودي علي أكثر من مرة إذ كنت أرد بصوت خافت يكاد يسمعه الطالب الذي يقف بجواري فيضطر الأستاذ لتكرار ندائه.
أنهيت في هذه المدرسة خمس سنوات كاملة، وفي الصف السادس وهو الذي يشكل المرحلة النهائية في الابتدائية فقد انتقلت إلى مدرسة أخرى تدعى دار الأيتام الإسلامية في البلدة القديمة أيضا، ليس لأن تلامذتها أيتام بل لأن فيها فرعا صناعيا للأيتام فقط.
في هذه المدرسة بدأت رحلة العلم، ومن هناك انطلقت نحو العالم.
كان أول مدرس يدرسني اسمه الاستاذ وديع خميس، مسيحيا يسكن في سلوان (وادي حلوة) في تلك الفترة، وكان كبيرا في السن، ولكنه كان بشوشا وطويل البال معنا، ومنه بدأت أفك أول الحروف وإليه أدين بالشكر، والعرفان. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. لا أزال أذكر صفنا الأول الابتدائي، كان يقع في الجهة اليمنى من نهاية الساحة العلوية حيث يطل على شارع باب الغوانمة المؤدي للحرم الشريف.
كانت الساحة العلوية ملاصقة لمئذنة باب الغوانمة التي سمعنا كطلاب أن أحد المقاومين المقدسيين كان من أعلاها يطلق رصاصه على المحتلين أثناء الحرب عام ١٩٦٧ حتى قصفته إحدى الطائرات الإسرائيلية فانضم لقافلة الشهداء.
من الصعب نسيان مدرسي المرحلة الابتدائية، فمن وديع خميس بالصف الأول الابتدائي، مرورا بالأستاذ سعيد الحسيني في الصف الثاني، ثم الأستاذ كمال الركن، وعدلي النشاشيبي، في الثالث الابتدائي، والأساتذة فهمي الأنصاري، كامل الأرناؤوط، فوزي البكري في الصفوف اللاحقة.
حرب عام ١٩٦٧ كان أسوأ مرحلة مرت على المدرسة حيث استلمت إدارتها بعد الهزيمة التي منيت بها الدول العربية، واحتلال ما تبقى من فلسطين، وزارة المعارف الإسرائيلية، وأمام رفض معظم المعلمين القدامى العمل مع الاحتلال الإسرائيلي عينت الأستاذ عبد الله نصار مديرا، لكن أحد المعلمين الانتهازيين استغل وضع القدس والاحتلال، وركب رأسه وبدأ بالاحتجاج والتحرك لجمع العرائض الرافضة لتعيين عبد الله نصار مديرا بحجة أن مدير المدرسة مسيحي، مع أن الهدف كان أن يشغل هو ذلك المنصب.
محمد حسنين فهمي هو الذي قاد تلك الحملة، وظل يطارد ويراجع المعارف الإسرائيلية جامعا توقيعات بعض المدرسين الجدد الذين كان معظمهم من خريجي التوجيهي الذين قبلوا أن يحلوا محل المدرسين المضربين حتى قبلت الوزارة طلبه فهذا مناها، فقسمت المدرسة قسمين، الصفوف الموجودة في القسم العلوي من المدرسة (من الأول حتى الثالث) كان مديرهم الأستاذ عبد الله نصار أما بقية الصفوف الموجودة في الساحة السفلية فكان مديرها الأستاذ محمد حسنين فهمي، وهو أسوأ مدير (ناظر) مدرسة عرفته في حياتي. إذ لا يكفي أن أول عمل قام به تقسيم المدرسة إلى قسمين، فقد كان مديرا سيء الطباع ويستخدم العنف مع الطلاب لأتفه الأسباب، رغم أن طلابه من الأطفال الذين يحتاجون لرعاية، وتربية. طلبة ابتدائي.
افتعل مشاكل مع الكثير من الأهالي، بسبب استخدامه العصا والعنف الجسدي ضد الطلاب الصغار لأي جرم ارتكبوه، فلو تأخر طالب عن المدرسة يتم ضربه، ولو تكلم الطالب مع زميل له أثناء الدرس وأرسله الأستاذ للمدير يتعرض الطالب إلى ضرب عنيف، وكأنه أراد أن يكون مديرا ليمارس ساديته على الأطفال الأبرياء.
كان هذا المدير يجمع الطلاب المشاغبين كما يسميهم وكلهم أعمارهم تتراوح بين العاشرة والثانية عشرة، فيدخلهم إلى أحد القاعات ويأتي بموظفيه، فيأمرهم بالإمساك بالطالب حيث يتم وضع جسمه على الأرض ليستلقي على ظهره ثم يتم رفع قدميه بعد خلع الجرابين (الكلسات)، ويقوم المدير محمد حسنين فهمي بضربه على قدميه بعنف حتى يفقد وعيه وبعد ذلك يتركه يصرخ غير قادر على المشي.
في هذه المدرسة بدأت أبني أصدقائي بدءاً من شعبان أبو خلف، وسهيل الخطيب، ورأفت الشهابي، وشرف البرقاوي، وانتهاء بنور السلايمة، وحجازي الرشق وغيرهم.
ويعد الصديق شعبان أبو خلف أكبرهم منزلة عندي آنذاك فقد كان صديقا طيبا يدعونا إلى بيت أهله الواسع نسبيا في وادي حلوة خارج سور القدس من باب المغاربة، فنذهب معه، وهناك يقدم لنا أهله الحلويات والشراب، لم يكن بمقدورنا أن ندعوه فأوضاع أهلنا المالية والبيتية لم تسمح بذلك، فكيف أدعوه وكنت في تلك الأيام أعيش مع الوالدين، وثلاثة من الإخوة والأخوات كانوا يتزايدون كل عامين في غرفة واحدة!!!
ورغم ذلك لم يتخل شعبان أبو خلف عنا حتى فرقتنا الأيام فلا أدري في أي مكان يعيش. ولكم بحثت عنه وعن آخرين لعلي أجد أحدهم خلال الشبكة لكنني عجزت فلم أعثر لهم على أثر.
كان والده تاجر أقمشة في سوق الخواجات في القدس القديمة ذهبت في أحد السنوات للشارع وسألت عنه لكن يبدو أنه ترك السوق أو باع محله.
في هذه المدرسة تفتحت على الحياة، والتحقت بسوق العمل المأجور خلال دراستي فيها حيث كنت أعمل ليس فقط في العطلة الصيفية، ولكن في ساعات ما بعد الظهر.
كان مصروفي اليومي خلال السنوات الأولى في المدرسة العمرية عبارة عن تعريفة أردنية لونها أحمر، وهي عبارة عن نصف قرش، وكل مائة قرش تساوي دينارا واحدا.
كنت أشتري في التعريفة ربع ساندويش فقط، وهو عبارة عن ربع رغيف صغير كنا نسميه كماج، وفي داخله قرص فلافل صغير لا غير، وعلى الفلافل بعض الزعتر والملح.
أحيانا إذا كانت الأوضاع ميسورة كنا نخرج من المدرسة في فرصة الغذاء لنشتري بعض الفلافل والبطاطا المقلية من بائع يقف باب المدرسة يغلفها لنا بصفحة من جريدة فتمتزج البطاطا مع حبر الجريدة فتضيف للأكل طعما جديدا لم يعرفه غير طلبة جيلنا القديم.
كنت من الطلبة المتفوقين في المدرسة في كل شيء إلا الرياضة، هذا إن جاز لنا أن نسمي ما يفرض علينا رياضة، وكان يدرسنا إياها الأستاذ عدلي النشاشيبي من القدس.
بعد الاحتلال الإسرائيلي بسنة أي في عام 1968 تم افتتاح مكتبة عامة لطلبة المدرسة، وقد سدت تلك المكتبة فراغا كبيرا، وكانت مكتبة منوعة أدبية ثقافية، وفيها بدأت أطالع عشرات الكتب خارج المنهاج الدراسي، وعندما زاد عدد المترددين على المكتبة الصغيرة، فقد اضطرت إدارة المكتبة السماح للمشتركين فقط بالجلوس فيها، ورغم أنني لم أكن مشتركا فيها في البداية، لأنني لم أملك قيمة الاشتراك إلا أن المشرف عليها وأعتقد أن اسمه ياسين صب لبن كان يسمح لي من بين كل الطلاب غير المشتركين في الدخول إلى المكتبة في أي وقت لأنني ربما الأكثر تواجدا ومطالعة، فلم أترك قصة للأطفال الصغار لم أقرأها، وأذكر أنني أيضا قرأت قصص عنترة بن شداد والزير سالم، وقصة بني هلال، وحمزة البهلوان، وسيف بن ذي يزن، ودون كيشوت، ووو.. الخ.
المدرسة العمرية صرح علمي خرجت الكثير من الطلاب، ومن أقدم المدارس في البلدة القديمة، وسميت بالعمرية نسبة للخليفة العادل عمر بن الخطاب.
مرفق بعض الصور للمدرسة العمرية مدرسة الطفولة فيها أجمل الذكريات، وأحبها.