/B_rub>
فجأة رن جرس الهاتف، بينما كان أشرف يحلق ذقنه، استعدادا للتوجه إلى شركته نظر إلى شاشة الهاتف الخلوي فعرف أن المتصل مدير مدرسة ابنه محمد. استغرب اتصاله في الصباح الباكر فلم يتعود أشرف أن يستقبل اتصالا من المدرسة على هاتفه الخلوي مبكرا، فقد مر على مغادرة ابنه محمد البيت متوجها إلى المدرسة الابتدائية عشر دقائق، فتح الخط ورد قائلا
– ألو
– هاي، نعتذر على إزعاجك، لكن نحتاج إلى الحديث معك في أمر هام، ولذا ندعوك إلى زيارتنا هنا في المكتب.
– هل هناك أمر هام سيد هاملتون؟
– نعم هو هام لكن لا تقلق نفسك كثيرا، فسوف نشرحه لك حينما تحضر.
لم يصدق أشرف ما يسمع فبدأت تراوده الوساوس
– هل حصل لمحمد أي مكروه؟
– لا لا ليس الأمر كذلك، سنعلمك عندما تحضر.
– هل أصيب في حادث سير في الطريق؟
– لماذا تفترض كل ذلك، الأمر يتعلق بأمر آخر.
– حسنا هل نستطيع أن نؤجل هذا الاجتماع مستر هاملتون؟
– أفضل اليوم فالأمر هام .
لم يكن صوت مدير المدرسة مشجعا، وبدأت الوساوس في رأسه تدور بسرعة لم يستطع تحملها، لا بد أن شيئا ما حصل للولد وإلا لماذا اتصل بي في هذه الساعة؟ ترك كل شيء مكانه ولبس ملابسه بسرعة، نادى زوجته وشرح لها الأمر، فقالت له:
– هل أحضر معك؟
– لا ضرورة لذلك فلا نعرف ما المشكلة بعد، سأتصل بك.
– قلت لك يا أشرف ألف مرة أن تشتري هاتفا لابننا فكنت ترفض بحجة أنه صغير
– ليس هذا وقت عتاب يا صفاء دعيني أذهب لأرى ما الأمر.
– حسنا مع السلامة، لا تنس أن تخبرني إن حصل لمحمد أي مكروه.
– حسنا، ولا تنسي أنت اليوم موعدنا على العشاء مع جلال الفلسطيني في بيتهم الجديد.
خرج أشرف وهو مشغول البال، لماذا دعاني المدير الان؟
– لكن لو حصل لابني محمد مكروها سيقول لي، ولن يتأخر، فالأمريكيون ليسوا مثل العرب فلا يهمهم أن يخفوا الأمر عن الأهل.
في طريقه إلى المدرسة، كان يستعيد أشرف شريط حياته منذ كان طالبا في المدرسة، في حلمية الزيتون، حتى أيامه الأخيرة.
كان كل حلمه في مصر قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من عشرين سنة، أن يحصل على تأشيرة الفيزا لدخول بلد الحرية، والدولار الأخضر، كانت سعادته لا توصف عندما قال له القنصل أنه سيمنحه الفيزا، زادت دقات قلبه في تلك الفترة بسرعة كبيرة لم يكن يدري إن كانت ضعفها أم أكثر قليلا.
قال في نفسه لعل هذه فرصتي التي لا تعوض، لذا علي أن أعرف كيف أستغلها، فقد لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى.
بعد أيام كان أشرف على متن الطائرة المتجهة إلى نيويورك، وما إن ختم موظف المهاجرة جواز سفره حتى بدأ يرتل آيات من الذكر الحكيم، فقد وهبه الله كل ما يريد وها هو يتجه نحو الباب الخارجي يبحث عن صديق له وعده أن ينتظره هناك.
لم يضيع أشرف يوما واحدا سدى فمنذ بدأ عمله في أحد المحلات التجارية لم يعطل يوما واحدا، فقد كان يعمل سبعة أيام في الأسبوع، وبأجر زهيد لأنه يعمل بطريقة غير شرعية وبدون أوراق رسمية تسمح له بالعمل، أصحاب العمل حتى العرب منهم يعرفون كيف يستغلون العمال غير الشرعيين، وليس للعمال بديل آخر، فإن بلغوا عن ظروف عملهم السيئة فإن الترحيل ينتظرهم لأنه ممنوع عليهم العمل بأية وظيفة كانت.
لم يكن يهم أشرف مدى استغلال صاحب العمل له، فيكفي أنه منحه فرصة العمل، ولا يعتبر المبلغ الذي يتقاضاه أشرف من رب العمل استغلالا لأنه يقارن ذلك بما يقبضه في مصر فيراه عاليا جدا، وقد عرف كيف يبدأ بتوفير معظمه لأنه كان يقتسم الشقة مع عدة أشخاص، ورغم إزعاجهم، وأصواتهم بعد منتصف الليل لكنه تعود على النوم رغم كل هذا الضجيج، وهو حال ليس بأسوأ من بيت أهله في مصر الذي كان يسكنة عشرة أشخاص بما فيهم أمه وأبيه، ولم يكن لديهم سوى حمام واحد، لذا كانوا كل صباح ينتظرون على الدور.
الفقر الذي عاشه أشرف خلق منه رجلا مكافحا، يعمل ليل نهار دون أن يشكو، أو يبدو عليه التعب، كان مصمما على الوصول إلى الهدف الذي رسمه لنفسه، خطوة خطوة.
أهم ما كان يشغل بال أشرف هو توفير أكبر قدر من الفلوس، لذلك كان منذ يومه الأول يفكر ألف مرة قبل أن يخرج الدولار من جيبه، فأطلق عليه أصدقاؤه اسم البخيل، لأنه كان يرفض أن يشتري أي شيء للبيت ويكتفي بتناول طعامه في مكان عمله. لم يشرب الكولا، لم يدخن، حتى إذا ما اتفق مع صديقة أمريكية تعرف عليها في العمل أن يخرج معها للتنزه، فقد كان يأخذها إلى الحديقة العامة، وعندما كانت تطلب منه شراء شيء يشربانه معا كان يتذرع أنه نسي فلوسه في البيت، حتى ملت الفتاة واضطرت أن تشتري ذلك لهما بفلوسها، أحيانا كان يطلب منها أن تسلفه الفلوس ليشتري لها شيئا، لكنه لم يكن يعيد الفلوس لها، ويتظاهر بالنسيان وعندما تذكره يختلق ألف عذر.
مرت السنوات مثل غمضة عين، ها هو أشرف الآن بعد عشرين سنة، واحدا من رجال الأعمال العرب الكبار، ربما أحد أهم رجل أعمال عربي في الولاية كلها، يجلس وراء مكتبه الفخم وسيجاره الفاخر لا يفارقه، جرس الهاتف لا يتوقف في مكتبه عن الرنين، وسكرتيراته الخمس لا يتوقفن عن العمل وتسجيل الملاحظات، والرد على الزبائن، وحجز المواعيد لمقابلة أشرف.
أصبح يهتم بشكله الخارجي وينتقي ملابسه من أفخم المحلات، كيف لا وهو يعقد الصفقات التجارية بملايين الدولارات على الهاتف وبدون توقيع أية أوراق رسمية، فقد أصبح حلم رجال الأعمال العرب الصغار أن يتعرفوا على أشرف، حتى لو لم يكن لهم أية مصلحة تجارية معه، فقد كانت معارفه على صعيد الولاية من مسؤولين في البلدية، والمحافظة كبيرة جدا وتساهم في تسهيل الكثير من المعاملات الصعبة الضرورية في عالم التجارة والاقتصاد.
تزوج أشرف منذ عدة سنوات ولديه 3 أولاد، وبنت واحدة، كان أولاده من المتفوقين في المدرسة، خصوصا أصغرهم محمد الذي كان الأول في مدرسته من سنته الأولى.
كان يقول: مهما نسيت فلن أنسى يوم مولد محمد، كان مولده فاتحة خير علي، فقد رسى علي في يوم مولده عطاء أكبر مشروع غير حياتي، وجعلني فيما بعد من أكبر رجال الأعمال في البلد، لذلك قال لزوجته:
– يا صفاء لقد قررت أن أسميه محمدا، فقالت له
– عليه الصلاة والسلام، اسم خير لكن يا أشرف، ألا ترى أن اسم محمد في كل مكان، لماذا لا نسميه عمادا مثلا
– محمد ولا شيء غير محمد، فعلى وجهه جاءنا الخير، كما طل الخير على العرب منذ ولد سيد الخلق
– على بركة الله يا زوجي العزيز
عرفه كل المسؤولين في المدرسة، فقد كان دائم التبرع لها، ولأنه أحد كبار رجال الأعمال فقد أصبح أشهر من نار على علم، لم يترك اجتماعا لجمعية أو مؤسسة في منطقته إلا وشارك بها. كان يحضر اجتماع أولياء أمور الطلاب السنوي والفصلي ويشارك معهم في النقاش. وكان حديث مدير المدرسة في أحد الاجتماعات حيث شكره أمام جميع الحضور، كانت المفاجئة أن المدير قدم له باسم المدرسة درع المدرسة تقديرا لجهوده في تشجيع العلم والثقافة.
وصل أشرف المدرسة، فأوقف سيارته، في موقف سيارات الزوار، ثم تابع طريقه إلى مكتب المدير، رحب به كل معلم رآه فهم يعرفونه حق معرفة، فقد أصبح أشرف اليوم أحد أبرز رجال الأعمال العرب البارزين، وعندما وصل إلى مكتب المدير، كان المدير في انتظاره في الخارج فقد وصله خبر وصوله من حارس المدرسة.
– أهلا وسهلا بك في مدرستك
– أهلا بك،
سلم كل منهما على الآخر بحرارة ، ودخلا غرفة المكتب.
– هل أطلب لك قهوة؟
– لم لا يسعدني شرب القهوة معك
طلب المدير فنجانين من القهوة، ثم بدأ بالترحيب بالسيد أشرف عطا. فبادره أشرف على الفور
– هل حصل للولد مكروه
– لقد قلت لك من قبل الولد بخير، نحن لم ندعوك لكي نشغلك.
ضغط المدير على زر الجرس، فدخلت السكرتيرة، طلب منها أن تحضر محمد أشرف عطا من الصف، ليطمئن بنفسه على الولد.
– لا داعي سيد هاملتون، لم أقصد إزعاجك
– حسنا اذهبي واتركينا سندي
فجأة جاءت سكرتيرة أخرى بالقهوة، قدم المدير القهوة لضيفه ثم بدأ بالحديث
– لا أدري كيف أبدأ لك الحديث سيد عطا، لكنه أمر مهم
– تفضل
– أنا أعرف أن الوضع حساس بالنسبة لك، وأعرف أنك من خيرة أهل البلد هنا وما قدمته للمدرسة لم يقدمه رجل آخر، وربما من حرصي عليك وعلى محمد قررت أن أبحث هذا الأمر معك
– تفضل أكمل
– منذ أحداث الحادي عشر من أيلول فقد تغير كل شيء
– تقصد سياسة الولايات المتحدة؟
– ليس هذا من اختصاصنا لكن... المدرسة ... أنت تعرف حساسية الطلاب، فمدرستنا تضم أكثر من ألف طالب
– سيد هاملتون اشرح ما تريد قوله بوضوح
– لن أخفي عليك أن الوضع بعد أحداث أيلول المؤسفة قد غير الناس الذين أصبحوا يكرهون أو لا يرتاحون لبعض الأسماء التي أصبحت تمثل لهم أو تذكرهم بالإرهاب مثل بن لادن مثلا، أو طالبان ....
– حسنا أتفهم ذلك
– أنت تعلم أن أحد الذين نفذوا هذا العمل الإرهابي هو مصري واسمه محمد عطا و...، فقاطعة أشرف قائلا
– لكن ابني محمد صغير ولا أحد يمكنه أن يشك أنه الذي نفذ عملا إرهابيا، فهو لم يتم التاسعة بعد.
– أعرف ذلك يا سيد عطا، لكن الأهالي قدموا لنا احتجاجات لأن طالبا في مدرستهم يدعى محمد عطا، وأصبحوا يوصون أبناءهم بالابتعاد عنه.
– أإلى هذا الحد؟
– سيد عطا اسم محمد عطا مثير للنفس ويذكر الناس بالجريمة النكراء، أعرف أنك تستنكرها وتدينها، لكن لو كنت مكانهم فسوف يتغير موقفك. فكر معي الآن بعد أن يكبر ابنك كيف سينجز معاملاته وكيف سيتعاون مع زملائه في الهاي سكول، لن يقول لهم أنا محمد أشرف عطا وأنا لست من نفذ ذلك العمل، هم يعرفون ذلك لكن الاسم قد يجلب له المتاعب.
– وهل على أن أنقله إلى مدرسة أخرى؟
– هذا لن يحل المشكلة.
– إذن تريدني أن أغير اسمه؟
– إن لم يزعجك ذلك.
– لكنه اسم محبب لنفسي،
– أعرف ذلك فهو اسم نبيكم، وهناك أشخاص كثيرون يسمون أولادهم محمد لكن محمد عطا أصبح اسما مختلفا، إنه ليس محمد إنه محمد عطا. إنه اسم الذي فجر إحدى الطائرات في أحد البرجين، لم لا تغير اسم العائلة ليكون أشرف بدلا من عطا؟
– لقد حيرتني في اقتراحك هذا سيد هاملتون
– أكرر لك أنه ليس سوى اقتراح مني، وأنت غير مجبر على ذلك، لكن فكر في الأمر اسم يثير الناس، وابنك بين الطلاب الذين يعرفون من أهاليهم عن محمد عطا الإرهابي لذلك عندما يتشاجر أحدهم معه فسوف يعايره باسمه ويصفه بالإرهابي، الآباء يطلبون إبعاد ابنك عن أبنائهم بعضهم هدد أن ينقل ابنه إلى مدرسة أخرى.
– وهل أثر ذلك على المدرسين؟
– المدرسون يعرفون أنه طفل بريء لكنهم يكرهون اسم محمد عطا ولا يحبون أن ينادوه باسمه الحقيقي، بعضهم أصبح يناديه باسم مو اختصارا لاسم محمد، أحد المدرسين قال لي إنه يصاب بالذعر كلما قرأ اسم ابنك على ورقة الامتحانات. ليس مطلوبا منك أن تتخذ قرارا الآن، لكني أنصحك بالتفكير ودراسة الموضوع.
– حسنا سأفكر بما هو أفضل.
لم يرد أشرف أن يكون رده جافا على المدير فابنه لا زال في المدرسة، وربما سيبقى فيها، وما يطرحه فيه بعض الصحة، فما العمل؟؟ خرج من عند المدير وهو يحمل سؤالا إلى زوجته لعلها تساعده في الإجابة عليه.
آب 2006