/B_rub>
ودع أقرباءه في بيروت بعد أن حانت ساعة السفر، كان في وداع فادي مساء يوم من أيام شهر أغسطس (آب) عام 1999 أمه وأخوه وأخته وخالته. بكى وهو يعانقهم جميعا فقد كانوا كل ما له في هذه الدنيا.
قبلته خالته وفجأة دست في جيبه يدها ،كأنها كانت تدس له رسالة وداع أو صورة تذكارية، لكنه فوجئ بعد إقلاع الطائرة أنها دست في جيبه مائة دولار أمريكي. بكى تأثراً لهذا الموقف النبيل، وقال في نفسه:
– يالهذه الخالة العظيمة، هل كانت تعرف أنني لا أحمل في جيبى سوى عشرين دولارا فقط؟.
أعرف أن وضعها أتعس مني فكيف استطاعت أن تحرم أولادها من لقمة العيش لتدسها فى فمي.
سأكون ابن حرام لو نسيت لها هذا المعروف. تمتم في نفسه وقال بصمت :
– شكرا لك يا خالتي إذا وفقني الله بعمل مناسب لأرسلن لك مائة دولار شهريا حتى آخر يوم في عمرك.
كان حلما لفادي أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وها هو حلمه يتحقق، وهو الآن في الطائرة المتجهة من أمستردام إلى ميتشغان .
لم يكن سهلا الحصول على تلك الفيزا فقد كافح حتى وصل لها، لم يترك طريقا إلا سلكه، من واسطة ومعرفة.. كلهم خدعوه، قبضوا الفلوس ثم اعتذروا دون أن يعيدوها إليه، لم ينقذه إلا صديق له حيث زيف له شهادات مدرسية مختومة بخاتم حكومي رسمي تفيد أنه أنهى المدرسة بنجاح فحصل على قبول من إحدى الجامعات خولته الحصول على الفيزا.
– المهم أن أصل إلى هناك، بعدها كل شيء سيهون.
كان فادي قد قرر الطريق التي سيسلكها بعد وصوله، كان يعرف كل خطوة سيقدم عليها. الطريق صعب، ليس معبداً بالورود لكنه سيشقه مهما كانت الآلام ، كل شيء يهون عن الفقر والحرمان، كل شيء أهون من أن تكون شابا بلا وظيفة ولا عمل ولا دخل مالي، ولا أمل بالمستقبل، كل شيء أهون من البحث عن وظيفة لدى أصحاب عمل جشعين كذابين، كل شيء أهون من أن تمد يدك إلى صديق أو جار أو قريب فيردك خائباً.
آه لو كان كل الناس مثل خالتي ليال لهانت ، لكنهم نقيضها تماماً. كلما أتذكر والدي وهو مقتول في الشارع، فجرت رأسه الطلقات يقشعر بدني، أشعر إنني أريد أن أنتقم من كل المسؤولين عن الحرب والقتل، تلك التي جعلتني يتيما وأنا ابن العاشرة، وترملت أمي وهي فى سن الثلاثين . كانت صبية جميلة ، لم تسلم بعد موت أبي من ملاحقة الرجال، فهذا يريد أن يسترها وهذا يريد أن يجعلها عشيقته وآخر يريدها أن تكون زوجة متعة، وآخر قال لها لماذا تحرمي شبابك من الدنيا، ضعي الأولاد فى ملجأ وتزوجي ، لم تسمع أمي إلى أحد، وقررت تربيتنا وعدم التخلي عنا مهما كلفها ذلك من ثمن.
فى مطار ميتشغان كان صديقه شادي في انتظاره ، لم يخب أمله، فقد أخذه معه للبيت وفي اليوم التالي نقله للعمل معه فى بقالته الصغيرة حيث كانت مهمته تعبئة الثلاجات والرفوف بدل البضائع المباعة.
رحمتك يا رب، ها هو فادي يعمل في ميتشغان ، لم يضيع من وقته يوما واحداً ، وبعد أيام سيلتحق بالجامعة ليضمن استمرار الفيزا ، فقد دخل الولايات المتحدة بفيزا طالب وعليه الالتحاق بها حتى يعيد ترتيب أموره.
لم يمض شهر حتى قدم فادي أوراقه طالبا اللجوء السياسي ومنحه حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة.
كان هذا خيار فادي المدروس كما قال، فقد أصبح الزواج من أمريكية من أجل الحصول على الأقامة أمراً أكثر كلفة حتى من أقساط الجامعة .
الزواج لا يكلف كثيراً في أمريكا وربما لا شيء سوى الرسوم لكن مطالب الفتاة الأمريكية عالية بالنسبة له، فهي تريد السهر كل أسبوع وارتياد البارات ومحلات الرقص والمطاعم مع زوجها مما سيرهقه ، إضافة أن القانون الجديد أصبح يلزم الزوج البقاء مع زوجته مدة سنتين قبل منحه حق الإقامة، مع حق الزوجة في تلك المدة أن تلغي الإقامة عن زوجها إن شكت بنواياه أو ملت من عشرته.
كان فادي يعرف كل ذلك ويعرف أن اللجوء السياسي أفضل الطرق وها هو يلجأ لها، طريق شائكة ،معقدة، لكنه لن يرجع للبنان خالي اليدين حتى لو شنقوه.
بعد عام من طلب اللجوء السياسي ،عرف شادي من أحد أصدقائه خبراً وقع عليه كالصاعقة ، لم يصدق ما سمعه . وبدأ يتساءل:
– فادي يعملها؟ معقول؟ لا أصدق.
أنا أعرفه تماما، هل تغير بغيابي؟
حمل نفسه والتقى بفادي.
– فادي ، ما الذى أسمعهم يتهامسونه عنك؟.
– ماذا تقصد؟.
اللجوء السياسي؟.
– لم أفهم ما تقصد ، أنت تعلم أنني قدمت طلبا للجوء السياسي.
– فادي لا تهرب من السؤال ، دعني أوضح لك أكثر هل كان أبوك جاسوسا للسي أي قبل مقتله؟
– من قال لك ذلك؟
– فادي أرجوك ليس مهما من قال ، هل صحيح أم لا أرحني؟.
نظر فادي إلى صديقة شادي وبكى قبل أن يقول له:
– لا لم يكن والدي جاسوسا ، كان شريفا ، كان وطنيا يحب لبنان كان مسالماً، كان بطلاً يكافح من أجل أبنائه . افنى عمره لتربيتنا. أنا التافه الحقير، قدمت طلبا للجوء السياسى وادعيت أن والدي كان جاسوسا وقتله جماعة الحزب هناك حتى أحصل على حق اللجوء لأمريكا . لم يكن عندي خيارات كثيرة.
صمت ثم أضاف:
أعرف بأنني ارتكبت جريمة بشعة، شوهت صورة والدي فقاطعه شادي.
– ألم تشوه صورة الحزب؟.
– الأمريكان ليسوا بحاجة لدلائل ضد الحزب، فهم يعتبرونه إرهابيا منذ سنوات طويلة.
– لكنك تضيف بحقه تهما لم يرتكبها.
– كلها أوراق ستحفظ بالملف بعد الحصول على كرت الإقامة .
– وهل صدقوك بهذه السهولة؟
– لا طبعا فقد قدمت لهم صورا عن صحف تتهم أبي بالجاسوسية للسي آي إي وإسرائيل.
– لكني لم أقرأ مثل تلك الأخبار
– دبرت تلك الصحف عن طريق مزور محترف.
– أتزور التاريخ؟
– عن أي تاريخ تتحدث؟ وهل المهم أن نكتب التاريخ بصدق؟ هل المهم أن نكتب عن المجازر وعن القتل على البطاقة بصدق دون أن نتحدث عن الضحايا أنفسهم وكيف تعيش أسرهم من بعدهم؟
– خيبت ظني يا فادي، لا أوافقك على ما تفعله.
– لماذا يا شادي ، هل ارتكبت جريمة كبرى؟.
هل تريدني العودة إلى لبنان ،حيث البطالة والفقر، والمحسوبيات والطائفية العنصرية البغيضة؟.
وهل كان غيرى أفضل مني؟.
ماذا تريدني أن أفعل؟ أأتزوج أمريكية وأكذب عليها ثم بعدسنتين أطلقها؟ أليس ذلك كذبا وغشاً؟ ما الفرق بين أن تكذب على زوجة توهمها أنك تحبها وستعيش العمر معها ثم تطلقها بعد أن تحصل على كرت الإقامة الدائم أو الجنسية –كما فعلت أنت- وبين أن تدعي أن أباك جاسوس وتطلب اللجوء السياسي؟
كلنا كذابون غشاشون، أنا لست الوحيد الذي طالب اللجوء السياسي تحت هذه المبررات.
هناك فلسطينيون قدموا طلبا للجوء السياسي مدعين أن حركة حماس تلاحقهم وأنها تتهمهم بالعمالة لأنهم جواسيس. واحد من هؤلاء قال لي بأنه كان يكتب بالدهان على الحائط شعار "اقتلوا العميل... " وبعد أن يصور الشعار بالكاميرا يعمل على إزالته حتى لا يراه أحد.. شخص آخر أصدر نسخة من بيان باسم حماس اتهم فيها نفسه بالعمالة وقدم البيان للجنة اللجوء السياسي.
هل تعرف ما قاله المحامي لي فى الجلسة الأخيرة؟..
سألني هل يوجد عندكم لواطيون مسلمون؟
ضحكت وقلت له لا فقال لي:
– لا تضحك لدي عدة طلبات لأشخاص يدعون أنهم لواطيون مسلمون وأنهم لو عادوا لبلادهم سيقتلونهم ، أحد الأشخاص قال للمحامي إنه مستعد أن يأتي بشخص يمارس معه اللواط علنا إن كان ذلك هو الطريق للحصول على الإقامة.
بصق شادى على الأرض وهو يقطب حاجبيه وخدوده قرفا مما سمع . وقال لفادي..
– كل هذا من أجل كرت الإقامة؟.
هل فقدتم كل إحساس؟.
– لا لم نفقد الإحساس، لكن الشعور بالقهر هو الذي دفعنا لذلك.
عندما تلف أمي من بيت لبيت تخدم الناس لتربينا وتتعرض للمضايقات من هذا وذاك ،وتصبر على التحرش الجنسي لتؤمن لنا لقمة العيش، مستعد أن أفعل أكثر من ذلك.
أنت يا شادي تعيش هنا منذ مدة طويلة، لم تعرف كيف تسير الأمور اليوم. صمت ثم أكمل قائلا:
في العام الماضي ذهبت إلى شركة في بيروت أطلب وظيفة فوجئت أن مديرها شخص أعرفه، استبشرت خيراً، وبعد أن طلبت منه المساعدة لايجاد وظيفة قال لي:
– آسف يا فادي ليس عندنا وظيفة شاغرة الآن لكن لو كانت أمك تبحث عن وظيفة فيمكن إيجاد واحدة لها وابتسم بخبث.
كنت سأحطم رأسه، لكني تماسكت وسيطرت على أعصابي إذ سأدخل بعد ذلك السجن وتبقى أمي وحيدة مع أختي الأصغر سناً.
هل جربت ذلك يا شادي؟.
أنت هنا تعيش فى النعيم مقارنة بنا هناك.
ماذا أقول لك؟ قبل شهرين من حضورى للولايات المتحدة ، طلبت من صديق لي قرضا بقيمه 20 ألف ليرة (13 دولار تقريباً) لم يكن فى البيت شيء نأكله ، أتدري ماذا قال لي ؟
– اعتذر طبعا رد عليه شادي
– ليته اعتذر ، لكنه قال، لا أستطيع أن أقرضك يا فادي ، فكيف ستسدها لي وأنت تعيش بدون عمل.
صمت قليلا، بدأ يمسح دموعه التي تنزل على خدوده ، انفعل ثم صاح بغضب.
أعرف أنني تافه وحقير، أعرف أنني شوهت أبي، شوهت تاريخه، سمعته، جعلت منه عميلا وجاسوسا ، و... من أجل كرت الإقامة؟ عملت ذلك لأني أريد العمل هنا، عملت ذلك لغاية نبيلة، لكن قل لي ماذا عن الذين قتلوه، لماذا قتلوه؟ ماذا استفادوا من قتله؟ كان مسالما ، كان محبا للخير، لم يرفع سلاحا ضد أحد، رفض اقتتال الإخوة ونادى الجميع بتحمل مسئوليتهم ، قتلوه بدم بارد.
رحمك الله يا والدي هم قتلوك حيا..
قاطعه شادي وأكمل قائلا:
– وفادى قتلك ميتاً !
ثم نظر إلى فادي وقال له
– سامحني يا فادي، لم أقتنع بكلامك، من عرف والدك، وحبه للبنان، لن يقبل أن يسمع عنه غير ذلك،أبوك بموته لم يعد ملكا لك ولأمك، بل هو رمز لشعبنا اللبناني، رمز التسامح ، رمز للعطاء، رمز للإخاء.
قاطعه فادي،
– هل كتبت علينا الزمان أن نفترق؟.
فقال شادي :
– لن نصبح أعداء يا فادي، لكن لا يمكن لصداقتنا أن تستمر . من الممكن للجندي أن يفر من المعركة ويغفر له، لكن أن يتحول دور الجندي في الحرب إلى تخريب جبهته الداخلية فمن غير المعقول أن يتم الصفح عنه.
– يا شادي ، يوجد مثلي كثيرون، من اليمن، من مصر، من الجزائر، سوريا، لبنان، فلسطين ... الخ كلهم يدعون أن المنظمات الإسلامية المتطرفة تلاحقهم مستغلين عداء الولايات المتحدة للمنظمات الإسلامية المذكورة، هناك نساء مسلمات يدعين أن آباءهن يغتصبوهن إن عادوا لبلادهن، هناك رجال يدعون أنهم لواطيون.
هناك أشخاص يدعون أنهم رجال سلام يدْعون للتطبيع مع إسرائيل فيتعرضون للملاحقة من جيرانهم وأهاليهم.
– لماذا أنا الذى علي أن أكون الرجل القديس؟
رد عليه شادي..
– دعك من هذه الأقوال يا فادي، من يتنازل لهذا الحد يمكن أن يبيع الوطن كله من أجل مصلحته.
لا يهمني ماذا يفعل الناس ويقولون، أنا أسألك أنت ويهمني أبوك أنت لا الناس، فعندما أستوعب أن يكون أبوك جاسوسا، سوف أتصل بك.