/B_rub>
عندما تجري لقاءاً مع صحفي أو كاتب في شؤون السياسة تكون كمن يتسلق الجبال فمهمتك بالـتأكيد صعبة، لأن عليك حينها أن تكون دقيقا في نقل العبارات والمصطلحات السياسية التي سيحاسبك الكاتب عليها لو نسيت أحدها وربما يشترط عليك أن ترسل له اللقاء قبل نشره ليتأكد أنك لم تنسب له عبارات لم يقلها، لكن عندما تجري حواراً مع أديب وشاعر تكون كغواص يغوص في عمق المحيط يبحث عن صدفه ولؤلؤه ومرجانه وعجائبه، وكلما زدت عمقا وغوصا كلما اكتشفت شيئا جديدا يغريك في الغوص أكثر ويحرضك على عدم العودة للشاطئ. ولا أحد هناك يشترط عليك شيئا بل كنوز البحر هي التي تجذبك لها أكثر وأكثر.
عندما قررنا في ديوان العرب أن نجري حوارا مع شاعر فلسطين المعروف سعود الأسدي كنا نعتقد أننا أمام شاعر كغيره من الشعراء فإذا بنا نكتشف عندما التقيناه أننا أمام موسوعة تراثية فلسطينية حفرت لنفسها مكانا في الذاكرة الفلسطينية وأصبحت جزءا منها ومن الصعب على أي باحث وأديب أن يكتب عن تاريخ فلسطين وأدب فلسطين وشعبه المقاوم للحفاظ على هويته دون أن يعرج على سعود الأسدي ليشرب عنده فنجان القهوة الفلسطيني بحَب الهال ويستمع عبر قصائده المحكية والفصحى عن تاريخ فلسطين مزخرف بأحرف عربية كان سعود الأسدي أحد روادها وعاشقيها.
الحوار مع سعود الأسدي لم يكن حوارا رسميا فكل الأسئلة التي حضرتها له تركتها على الورق، لأن عذوبه ألفاظه وقصائده التي يلقيها عليك تنسيك كل سؤال جئت من أجله لكن اللقاء في المحصلة يحمل معه كل ما تبحث عنه من إجابات تود نشرها للقراء العرب في كل مكان. ولولا خشيتي من طول اللقاء لبقيت معه أترنم طربا لقصائده التي تكتسب معنى آخر عندما تسمعها بصوته الشجي، الممزوج بأصوات أجدادنا وجداتنا والزيت والزعتر والعكوب وخبز الطابون وصوت الربابة، وجفرا ويا هالربع ... الخ
الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة قال في إحدى قصائده قبل أكثر من عشرين سنة من لم يعرف جفرا فليدفن نفسه ونحن نقول اليوم بعد حوارنا مع شاعر فلسطين الكبير سعود الأسدي من لم يعرف سعود الأسدي خصوصا من أبناء فلسطين فليخجل من ثقافته وليخجل من نفسه.
إليكم بعض ما سعدنا باكتشافه لكم في محيط ذاكرة سعود الأسدي
– من هو سعود الأسدي؟
– ولدت في قرية دير الأسد التي تبعد عن عكا 25 كيلومترا عام 1938 ودخلت المدرسة عام 1946 في مجد الكروم فلم يكن في قريتنا مدرسة ولكن إمام الجامع كان يدرسنا الدين وتهجئة القران الكريم بطريقة تقليدية غير مجدية. تعلّمت في ثانوية كفرياسيف وفي الجامعة العبرية . ومارست مهنة تدريس اللغة العربية منذ عام 1960 في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة وثانوية عكا ومدارس أُخرى . خرجت إلى التقاعد المبكّر عام 1993 بعد أن قضيت في مهنة التعليم مدة33عاماً .
– في عام النكبة (1948) كنت لا زلت طفلا فماذا بقي من ذاكرتك عنها؟
– عام لن ينساه أبناء شعبنا لأنه عام تشتت الشعب الفلسطيني فنحن سكان قرية دير الأسد أجبرنا على الرحيل منها من قبل الجيش الإسرائيلي ولم نعد إلا بعد عدة أشهر بعد أن توزعنا على عدة قرى قريبة من المنطقة.
– كيف بدأت تتجه للشعر ؟
– ليس غريبا أن أتجه للشعر وأنا ابن الشاعر الفلسطيني الشعبي محمد أبو السعود الأسدي [1] الذي سجن عام 1948 في سجن عتليت من قبل جيش الهاجاناه الإسرائيلي وكان معه مئات الأسرى وأرسل لنا مع الصليب الأحمر رسالة لا زلت أحتفظ بها وفيها قصيدة لا زلت أحتفظ بها في ذاكرتي قال فيها:
حنّ الفؤادُ لرؤيةِ الأولاد ِفبكيتُ أهلي والحمى وبلاديوطفقتُ في حكم الأسير مغرِّداًبالهجـر والتقييــــد والإبعـاد ِقامتْ بنات الشعر في أحزانناودققن من فوق الصدور أياديلولا منادٍ في المنام يقول لي :إصبرْ على حكم القضا ياحاديلظننتُ أني بينهن بمأتم ٍولخلتُ أنّ الموتَ ضمن فؤاديفإليك مني يا " سعودُ " تحيتيوإلى" الأمين ِ" بُغْيتي ومراديعِّرجْ على" المأمون" مرجع مجدناأملي به فهو المسيح الفاديو" لفيصل ٍ" مني تحية والد ٍوهو الصغير وفي السرير يُداديأوصيكمُ في والدٍ متألّم ٍسئم الحياة على البنين ينادي
عندما وصلت قصيدة والدي من معتقل عتليت عام 48 إلينا في دير الأسد كنت ابن عشر سنوات ، ولما عاد من الأسر واجتمع الناس في بيتنا للتهنئة بالسلامة وأثناء السهرة سألني والدي عن رسائله إلينا ، وكان يأتي بها الصليب الأحمر، أين الرسائل ياسعود وأين القصيدة التي بعثتها إليكم ؟ قلت : هي في خزانة أمي . قال هاتها ! قلت : لا حاجة إلى إحضارها فأنا أحفظها غيبا فقال : أسمعنا . ولما أسمعتهم قال : لماذا لم تبعث إلي بقصيدة جوابية؟ لم أحر جوابا يومها فأنا ابن عشر ولا علم لي بكتابة شعر أونثر ، وشعرت أن والدي قد حشرني في الزاوية .. ثم لم أجد بدا بعد سنين من كتابة الشعر وها هي قصائدي التي كتبتها وأكتبها إلى الآن فلعل والدي يجد بينها تلك القصيدة التي أرادها.. وسأظل أكتب بحافز قصيدة "حن الفؤاد "جوابا لآبي رحمه الله الذي حشرني منذ ذلك الزمان وربما لحسن حظي أو لسوئه في زاوية الشعر بقوله لي : لماذا لم تكتب لي قصيدة ؟
– هل نفهم من ذلك أن تلك الواقعة كانت بدايتك للشعر؟
– لا لا (قالها ضاحكا) أنا شاعر من بطن أمي.
كان لأبي رحمه الله مكتبة تجمع ما تنوع من كتب الأدب والشعر إضافة لكونه شاعرا لكن الحادثة الأولى التي أعتبرها بداية توجهي للشعر كانت عام 1959 عندما توفي صديقي إحسان بشارة فكتبت قصيدة بالعامية أرثيه بها، وبعد عودتي للبلد قرأتها على أبي مستشيرا فنصحني أن أكتبها بالفصحى على نمط قصائد المتنبي ـ رفيق صباي ـ وكانت تلك أول قصيدة شعر بالفصحى أكتبها.
– نعرف أنك التحقت بالجامعة العبرية فماذا تعلمت هناك؟
– التحقت بها عام 1958 والتحقت بقسم اللغة العربية، وربما تستغرب لو قلت لك أن أساتذتنا كانوا من اليهود، وكانوا يجيدون اللغة أكثر منا وبعضهم كانوا أساتذة متخصصين في اللهجات المحلية الفلسطينية بشكل تفصيلي.
– هل كان الطلاب الملتحقين بكلية اللغة العربية من الطلاب العرب فقط ؟
– لا طبعا فمعظمهم من اليهود، كانوا يتعلمون عنا كل شيء والعرب كانوا لا يعرفون عنهم شيئا.
– باعتبارك من جيل الشعراء الكبار أمثال زياد والقاسم ودرويش وراشد حسين كيف تصف هذا الجيل ودوره في الحفاظ على الثقافة العربية؟
– نحن الجيل المتجذر في الوطن، فخلال 55 سنة ونيف نحن موجودون ونؤكد ذاتنا وحضورنا الثقافي وتقاليدنا.
كل الفلوكلور الفلسطيني تضعضع إلا لدى شعب الداخل في الجليل والمثلث والنقب وسائر مناطق عام 1948.
جيل بارز قدم الكثير وقاسى الكثير وأنا أحتفظ بعلاقات جيدة مع جميع هؤلاء. جماهيرنا التي كانت تواجه محاولات الطمس كانت تواقة للغة العربية والأدب العربي لأنه كان طريقنا نحو التشبث بأرضنا وثقافتنا وحضارتنا. قد تستغرب لو قلت لك إننا في الستينات من القرن الماضي ناضلنا لأجل عقد ندوة مجرد ندوة عن شعر المتنبي في بيت الكرمة في حيفا ولم يوافق المسؤول اليهودي إلا بعد جهد جهيد لكن جماهيرنا التي لبت الدعوة كانت فوق التصور. ليس فقط لما للمتنبي من محبة ولكن لأننا كنا نواجه محاولات سلخنا عن ماضينا وتراثنا وثقافتنا العربية.
أنا أخجل من شباب هذا العصر فقد شاهدت برنامجا على قناة الجزيرة يسأل فيه الصحفي المتجول بعض الشباب ماذا يعرفون عن المتنبى، إذ قال له أحدهم إنه شاعر من أيام أحمد شوقي وأخرى تقول إنه كان يغني مع ناظم الغزالي!!
– محمود درويش قال في لقاء مع أحد الصحف سابقا إن المتنبي جده فماذا تقول أنت؟
– ضحك سعود الأسدي وقال مداعبا:
محمود درويش هو حفيد المتنبي بالتبنّي ، ولكن أذكّره أننا كنا عام 1965 قد أقمنا مهرجانا للمتنبي بمناسبة مرور ألف عام على ولادته في جمعية الشبان المسيحية في الناصرة وكان دوري يومها أن ألقي قصيدة فألّفت قصيدة بلغت 86 بيتاُ مطلعها:
يشيد بذكراك الحسام المشطّبُ
ويثني على ذاك اليراع المذهّبُ
وفي فورة حماسي وهياج الجمهور ارتجلت أبياتا ومنها بيت لأرضي المتنبي ووالدي رحمه الله وقد كان جالسا في الصف الأمامي
قلت :
وما أنا إلاّ شاعرٌ وابنُ شاعرٍ
إلى متنبي الشعر بالشعر يُنسبُ
ويومها كان حبيبنا محود درويش لايزال طفلاً ناشئاً يلعب البنانير في حارتنا بدير الأسد ، وأما القصيدة فقد نسيها الناس لكنهم ظلوا يذكرون البيت الذي أقول فيه
وما أنا إلا شاعر وابن شاعر الخ
لقد حفظت أشعار المتنبي كلها وأنا في صباي فإن كان درويش حفيده فأنا ابنه الأول ( ثم ضحك )
– ما دمت تكتب باللغة الفصحى فلماذا كتبت معظم ما كتبت باللهجة العامية الفلسطينية؟
– لأن هذه اللهجات جزء من تراثنا الذي يحاول الاحتلال سلخنا عنه، إنه تراثنا المصادر، إنه تاريخنا وخبزنا، إنه أسلوب حياة نحاول جاهدين الحفاظ عليه.
– من أكثر شعراء الداخل قربا من سعود الأسدي؟
– كلهم أصدقائي وأنا صديق للجميع وكلهم من سربي.
– هل شاركت بنشاطات ثقافية خارج الجليل والداخل الفلسطيني؟
– نعم شاركت في مدن فلسطينية كثيرة وفي دول عديدة أذكر منها الأردن ومصر وألمانيا وأمريكا و بلجيكا وفنلندا وغيرها.
– كم ديوان شعر أصدرت حتى الآن؟
– لي خمسة دواوين شعرية باللغة المحكية الفلسطينية :
أغاني من الجليل 1976
نسمات وزوابع 1986
عَالوَجَع 1992
شبق وعبق 1999
دعسِة بنت النبي 2000
كما أصدر [ديوان جفرا ] من الشعر المغنّى الفلسطيني 2000
وأخيرا كتاب إشراقة الشعر الغنائي اليوناني 2005 (دراسة وترجمة أخبار ومختارات من أشعار سبعة عشر شاعراً يونانيّاً من القرن السادس والخامس ق.م منهم الشاعرة الغنائية الأولى سافو والشعراء ألكايوس وبندار وسيمونيدس وهسيودوس وسواهم)
ولي تحت الطبع خرافات إيسوب ( ترجمة عن الإنجليزية ) .
ولقد حظيت كتبي باهتمام وتقييم كبيرين من قبل القرّاء والنقّاد في الصحف المحلية والخارجية على حد سواء.
– كيف ترى وضع الثقافة العربية اليوم في ظل الفضائيات والانترنت؟ وما الدور الذي يمكن للمثقف أن يلعبه؟
– تشرذم الثقافة العربية ناتج عن تشرذم الأوطان وغياب الحريات الديمقراطية. عندما يصبح هناك حرية للتعبير وحرية للأحزاب والأفكار المعارضة يمكن للمثقف أن يكون له دور بارز.
– تحاول السلطات الإسرائيلية أن تكسب المثقفين العرب في مناطق عام 1948 بتقديم بعض الجوائز لهم فماذا ترى؟
– لن أتقرب من أي سلطة ولو كانت سلطة عربية بحتة.
– هل أنت متفائل؟
– صرنا عجائز عجز بات يقعدنا
فأفّ منّي ومنها أمة التفل
[1] محمد أبو السعود الأسدي من قرية دير الأسد قضاء عكا في الجليل ، شاعر فلسطين الشعبي في الأعراس والاحتفالات ولد عام 1908 وتوفي عام 1993. وهو والد الشاعر الفلسطيني سعود الأسدي استاذ اللغة العربية في المدرسة الثانوية البلدية وشاعر اللغتين الفصحى والعامية صاحب أغاني من الجليل ونسمات وزوابع وعالوجع وشبق وعبق ودعسِة بنت النبي ، وجميعها باللغة المحكيـة الفلسطينيـة ، ولذا فإن النقاد يلقبونه " سيد اللغة المحكية في فلسطين " .
شارعنا المحبوب الغالي ابو تميم
نفتخر فيك بكونك فلسطيني
حبيبينا
وانا بعشق الزجل
وكتير بحب شعر ابنك رفعت وتميم الله يخليهن ونسيبك ابو ذياب غانم
انا محمد ابراهيم ١٨ سنة
دبورية الجليل الاسفل في حضن جبل الطور الغالي