/B_rub>
أشعل سيجاره بعود من الكبريت الذي تعود أن يدخنه أحيانا، وجال في بصره بعيدا ، وهو ينفث الدخان من فمه بشكل يوحي لكل من رآه وكأنه يتلذذ في تدخين سيجاره العريض .
مع كل شفطة سيجار كان يسرح بعيداً كأنه يعود للوراء سنة ، سنتين، عشر سنوات وربما جيلاً بحاله ، لا يدري أين تدور به الذكريات كأنه في عربة اختراق الزمن .
– إيـــــــــــــه ساق الله على أيام زمان ، صحيح كنا فقراء لكن كنا سعداءاً جداً ، على الأقل هكذا كانت مشاعرنا، لم نكن نشكو حالنا، كما نشكوها الآن رغم أن وضعنا الاقتصادي الآن أفضل ألف مرة .
– ربما كنا نوهم أنفسنا أننا سعداء ، فأين السعادة في طفولة معذبة كلها فقر مدقع؟؟ ألم تلتحق بسوق العمل المأجور قبل أن تبلغ العاشرة؟ ألم تكن تحمل على رأسك طرحة الخبز وفيها أكثر من مئة رغيف من الجهة الجنوبية لسور القدس ـ قرب باب داوود ـ إلى باب العامود في البلدة القديمة من القدس أي الجهة الشمالية من البلدة ؟؟
– رغم هذا كنا سعداء ، حتى عندما كنت أعمل في أحد المحلات السياحية بعد الدوام المدرسي إلى منتصف الليل فقد كنت سعيدا، كنت أشعر بالسعادة وأنا أذهب للمدرسة لابساً بنطلوناً مرقعاً من كل جانب، لو لبسته اليوم لقال الناس إنه موديل جديد وقلدوه، الأمور لا تحتاج لفلسفات كثيرة، فقد كنت سعيدا وكفى ، ربما كان الفقر سر سعادتي .
– لا تخدع نفسك، فقد كانت قناعتك سر تقاعسك في تحسين وضعك المالي وأصبحت تؤمن بمفاهيم غريبة مثل أن المال يفسد الإنسان، فتركت الآخرين ينهشوك وبسطت يدك لمن حولك فضحكوا عليك فيما بعد . كنت تجلس في الشوارع بعد عام 1967 تبيع الخبز للمارين وبعضهم كان من اليهود الذين كانوا يأتون بالآلاف لزيارة القدس الشرقية بعد أن احتلوها عام 1967 وكانوا يشترون منك وأنت تبيعهم بسعر أعلى من العرب لأنهم يهود، ولديهم فلوس أكثر وهم ليسوا كأهل البلد في حين كان غيرك يجلس في بيته يلعب أو يطالع قصة أو كتابا يفيده في دراسته .
– رغم هذا كنت سعيداً ، كنت أتقاضى يوميا عشرة قروش فقط وكثيراً من الخبزـ وكانت أمي تفرح لذلك وتفتح يدها تريد الفلوس والخبز، فيما أبي يتظاهر وكأنه لا يريدني أن أعمل، مع أنه كان يأخذ الفلوس منها فيما بعد .
كان عمري عشر سنوات أو أقل بقليل عندما احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين ولم أكن أعرف حينها شيئا عن الاحتلال سوى أن اليهود يكرهوننا ويريدون قتلنا، لم يوافق والدي على الرحيل من القدس إلى عمان كما فعل كثير من المواطنين الفلسطينيين خوفا مما سيفعله اليهود بهم فبقينا في بيوتنا مثل معظم الناس ولم نخش اليهود ولا حرابهم .
توقف لحظة عن التفكير وسحب شفطة أخرى من سيجاره كأنه ينتظر فيلما جديداً، بل كأنه أمام شاشة التلفزيون ينتقل من قناة إلى أخرى لا يدري ما الذي يبحث عنه ولا ما يمتعه، ألا تمارس تلك العادة يوميا وأنت أمام شاشة التلفاز؟؟ هذا فيلم قديم ، هذه أغنية بايخة ، هذه أخبار بايتة، هذا مذيع تعبان صوته خشن ، هذه مذيعة جميلة دعني أسمع ما تقول ، ثم تغير القناة بعد دقائق لا تعلم أين النهاية، فجأة قد تتوقف عند فيلم قديم حضرته ألف مرة وتحفظه عن ظهر قلب، وتصر أن تشاهد بعض فقراته ليس حبا في الفيلم بل لأنه يعيدك للوراء جيلا كاملا، لأنه يذكرك بحادثة معينة، ربما يذكرك بشبابك الضائع أو طفولتك، أو صداقتك وربما وربما، وقد يحدث ذلك أيضا عندما تستمع فجأة لأغنية قديمة كنت تغنيها قبل ثلاثين سنة ؟! هل جربت ؟؟
– هذا الفيلم حضرته مع أصدقائي القدامى، أصدقاء المدرسة ، يــــــاه كيف أخبارهم؟ ثلاثون سنة لم أرهم ومع ذلك لا زالوا يحتلون في ذاكرتي حيزا كبيرا.
– من تقصد يا ترى؟ أشوقي أبو غزالة وإبراهيم القيسي ومحمد علي عايد وخالد القيسي وموسى منى ووووو .
– مالي أراك تغوص في أعماقي من جديد ؟
– أم تقصد باسمة وخولة وسوسن ورنا ونادرة ووو ؟؟
– كلهم ، كلهم دون استثناء ، كانوا أصدقاء وصديقات المدرسة لكن تركوا ببراءتهم أجمل الذكريات التي من الصعب أن تمحى من الذاكرة . أتدري رغم شوقي الشديد لهم إلا أنني أحيانا أخاف لو التقيت بأحدهم أن أصدم فأنقم على تلك الذكريات الحلوة، أخاف أن يكونوا قد تغيروا بمشاعرهم وإنسانيتهم، أحاول أن تبقى ذكرياتي كما هي لا تتغير، فأنا لا أحب أن تتكسر ذكرياتي كما تكسرت أحلامي، فإن لم تكن أحلامي مقدسة لأن لا سيطرة لي عليها فإن ذكرياتي القديمة مقدسة عندي لأنها صورة حقيقية عني أحب دائما أن أراها كما هي دون ألوان جديدة ولا تكنيك جديد .أريدها قديمة أصلية كقطعة الآثار التي يحرص علماء الآثار على عدم المساس بها أو حتى تسليط أشعة الضوء عليها .
– ترى هل يذكرونك كما تذكرهم بالخير؟ أم ربما نسوا أنك كنت واحداً منهم ؟؟ أتراك تخطر على بال أحدهم؟ أتشكل جزءاً من ذاكرتهم كما يشكلون جزء من ذاكرتك ؟؟
– أعتقد ذلك ولكن مهما كان الأمر فلن يغير ذلك من الموضوع شيئا فهم جزء من حياتي ومن الصعب أن يخرجوا منها. قد تتغير أماكنهم في الذاكرة لكن من الصعب محوهم لأن ذلك يعني فقدان ذاكرتي وهذا يعني موتي النهائي .
– أإلى هذا الحد تتذكرهم؟ أتحبهم لأنهم كانوا أصدقاءك أم لأنهم كانوا أصدقاء الدراسة بما تحمله من مشاعر محبة متدفقة ؟؟ أم لأنك لم تعد تراهم فظلوا في ذاكرتك بتلك الهالة المقدسة التي تركتهم بها؟
– لا أدري قد تكون مصيبا لكنها ذكريات جميلة أتمنى لو عادت بي الأيام لأحياها من جديد ........آخ لا بد من شفطة سيجار أخرى، بل شفطتين هذه المرة :
– صباح الخير يا عادل
– أهلا صباح الورد يا ...
– هل أنجزت وظيفة الأمس في الرياضيات؟
– نعم كلها
– عظيم هل أستطيع أن أستعير دفترك؟
– طبعا يسعدني ذلك
لم أعط دفتري لأي طالب غيرها فقد كانت تحتل في نفسي احتراما كبيراً ومحبة صادقة، لم تتغير حتى بعد أن افترقنا إنه الحب الأول في حياتي، حب من القلب، لم ألمسها إلا عفوا، لم أقل لها أحبك وجها لوجه، فقد كنت أخاف أن أصرح لها بذلك، هكذا تعودنا، تلك كانت عادة أبناء جيلي، أن نخجل حتى في الإفصاح عن مشاعرنا الصادقة، لذلك كنا نصيغها في أبيات من الشعر أو أغنية نسمعها، أو كلمات جميلة نكتبها، أو الثرثرة فيها مع أحد الأصدقاء القريبين من القلب. لم تتكلم فينا إلا العيون، لكنها كانت أحيانا تحمر وتصفر وتخجل أن تقول كل ما تريد قوله فقد كان سحرها يفقد العيون توازنها فتميل كرجل ثمل، كانت العيون تريد من الآخر أن يفهم كل شيء دون شرح .
– صباح الخير عادل :
أنا متأسفة على ما حصل يوم أمس من أخي عندما مررت من باب دارنا أنت والأصدقاء ولوحت لي بيدك مسلما فهو لم يكن يعرف أنك طالب معي في نفس المدرسة، لقد حدثت أخي الكبير وقام بتوبيخة .
– لا تقلقي من أجل عيونك يهون كل شيئ .
– ......
الدنيا لم تعد كما كانت سابقا ، الآن أصبح كل شيء ماديا حتى الحب لا يكون حبا إلا بالوصال الجنسي، سواء بالزواج أو قبله والإنسان يقرر أصدقاءه حسب مصلحته المالية معهم، حتى الأصدقاء تغيروا
تغير كل شيئ.
تغير الزمن فتغيرت الأشياء والعلاقات والمعادلات الحسابية الاجتماعية، كأن الناس أنفسهم مربوطون بعامل الزمن فقد يكون أحدهم سر سعادتك يوما ما وسر تعاستك يوما آخر .
هل الناس الذين تغيروا أم الزمن الذي تغير أم أن كل شيء متغير ولا شيئ ثابت إلا ذكرياتي التي أحاول أن لا يعكرها أي شيء؟
– ألم يكن في حياتك أصدقاء كانوا يوما رفاق دربك وأصبحوا الآن لا يشكلون لك سوى الجانب السيء في حياتك ؟؟
– كثيرون تغيروا للأسوأ، بعضهم أصبح انتهازياً وآخرون أصبحوا لصوصاً باسم الوطن والشعب، ومنهم من اغتنوا فصاروا عندما أتصل بهم يتهربون، لأنهم يبحثون عن أصدقاء جدد يتناسبون مع مواقعهم الجديدة . قسم منهم ماتوا قبل أن يتغيروا فحافظوا على نقاوتهم .
– أنور ربيع سقط من الطابق الرابع فمات تاركا زوجته في رام الله وحيدة حتى بدون أولاد .
– ترى لماذا تعود للوراء كثيرا، لم لا تعيش الحاضر كما هو، هل تعشق الحاضر بأحلام الماضي أم تحب أن تعيش الماضي بأحلام الحاضر ؟؟
أيستطيع الإنسان أن يعيش في زمن غير زمنه وأن يعيش كل الأجيال ؟؟
– جربت وفشلت، فجيل الطفولة ولى بأحلامه وأوهامه وناسه وأصدقائه .لم يتبق منه غير ذكريات جميلة .
قارب سيجاره على الانتهاء ، أوف إنها ساعة كاملة، فهذا السيجار يحتاج تدخينه لساعة كاملة. إذا لقد مر على رحلته للماضي ساعة كاملة، إنه سيجار أرتورا فوانتيه المصنوع في أمريكا الجنوبية .
ما ألذ العودة إلى الماضي مع سيجار أرتورا فوانتيه، لكن ما أصعب العودة من الماضي للحاضر لأنك تعود فارغ اليدين، تترك أصدقاءك القدامى حيث كانوا، كأنك تودعم من جديد بالرغم منك، تترك من تحبهم في عالم آخر، تدفن بعضهم مرة أخرى كأنك تقتلهم كلما عدت لهم حتى السيجار يصبح رماداً. لكن الشيء الوحيد الجميل هو أن باستطاعتك كلما أردت أن تشعل سيجاراً جديداً أن تحييهم مرة أخرى وتعود لهم، فمتى يبعثون من جديد ؟؟!
أخي الفاضل الأديب . عادل سالم .السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مررت من هنا وقرأت قصيدتين . سامحني ياولدي , ورحلة إلي الماضي فيهما الصدق والتعبير المثر في النفس .
دمت سيدي بكل خير , وعشت مبدعا ألقا .
تحياتي وتقديري.
السيد عبد الرازق