منذ نعومة أظفاري وأنا أحب الشعر والشعراء، لم أترك ديوان شعر في مكتبة الأمانة في القدس أو مكتبة المدرسة العمرية حيث أنهيت المرحلة الابتدائية فيها، إلا وقرأته مرة ومرات حتى حفظت الآلاف من أبيات الشعر عن ظهر قلب.
قرأت دواوين المتنبي، وأبا تمام، والبحتري، والمعلقات وابن الرومي وابن الفارض قبل أن أتجاوز الثالثة عشر من عمري، وعشقت لذلك سماع الشعر إنشاداً ولحناً، وحاولت في سن مبكرة أن أكتب أولى قصائدي، فكانت بدايتي مع الشعر والأدب.
الفيلسوف الفارسي والشاعر عمر الخيام في رباعياته المشهورة ، كان أول ديوان شعر أقرأه، بل وأنسخه بخط يدي من الغلاف للغلاف، وقد فعلت ذلك مرغماً لا مختاراً ولذلك قصة سأرويها لكم. في نهاية العام 1968، حصل والدي على نسخة من رباعيات الخيام التي ترجمها إلى العربية الشاعر المصري أحمد رامي، من صديق له كان قد اشتراها من القاهرة أثناء زيارته لها، ولأن والدي يحب قراءة الشعر فقد استعار الديوان من صديقه الأستاذ سعيد السلايمة وطلب مني أن أنسخه له من الغلاف إلى الغلاف وهذا ما كان.
كانت كلمات الفيلسوف عمر الخيام تحمل في طياتها أجمل المعاني وأرقها ولعل أول رباعية حفظتها له كانت :
سمعت في حُلمي صوتاً أهابْ
ما فتّق النوم كمام الشبابْ
أفقْ فإن النوم صنوُ الردى
واشرب فمثواك فراش الترابْ
وعمر الخيام ليس شاعراً ماجناً كما يتوهم بعض القراء نظراً لأشعاره التي يتغزل فيها بالخمر والنساء، بل هو شاعر مؤمن أيضاً ولعل ذلك يتجلى في رباعيته التي تغنيها أم كلثوم:
يا عالم الأسرار علم اليقين
يا كاشف الضر عن البائسين
يا قابل الأعذار فئنا إلى
ظلك فاقبل توبة التائبين
عمر الخيام، كان الديوان الأول الذي أقرأه، ومنذ تلك اللحظة وأنا أتنقل من ديوان شعر الى آخر. بدأت بشعراء الجاهلية، ثم شعراء العصرين الأموي والعباسي، وكذلك شعراء الأندلس، مثل ابن زيدون.
وكما هو معروف عن الشعر العربي فقد استخدم في الغناء والمديح والهجاء، والوصف.. الخ حتى أنه كان في الماضي يحط من قدر قبيلة أو يرفع منها. ولعل أكثر الشعراء استخدم الشعر كسلاح للهجوم على الخصم ما قالته ولادة بنت المستكفي في عشيقها "ابن زيدون" الذي هجته بأفشع الكلمات ومنها:
إن ابن زيدون له فقحة
تعشق قضبان السراويل
إن أبصرت "إيراً" على نخلة
صارت من الطير الابابيل
في مطلع السبعينات، ومع نهوض الحركة الجماهيرية في المناطق الفلسطينية المحتلة، نزلت إلى الأسواق دواوين محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وغيرهم من شعراء المقاومة التي كانت أشعارهم تلهب حماس الطلبة في تظاهراتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي.
فكانت قصيدة محمود درويش "سجل أنا عربي" أكثر القصائد شهرة لأنها كانت تحمل رداً على سؤال الحركة الصهيونية التي كانت تتنكر لوجود شعب فلسطيني في فلسطين المحتلة.
فمن شعر الغزل والحب والمديح انتقلنا إلى شعر المقاومة، شعر التصدي للاحتلال، شعر الجماهير، فكانت أيضاً دواوين ناظم حكمت "تركي" و "بابلو نيرودا" وروايات غابرئيل ماركيز وغيرها الكثير الكثير، والحقيقة فقد ساهمت الأحداث في صقل تجربة الكتابة وتطورها. إذ ليس صحيحاً على الإطلاق أن الشاعر يحتاج فقط إلى موهبة. فالموهبة لوحدها لا تصنع شاعراً أو كاتباً أو فناناً تقرأه الناس في كل الأوقات، فإضافة للموهبة على الشاعر أن يمتلك أدواته الفنية ويجيد استخدامها بطلاقة، وإذا كانت الريشة والألوان هي أدوات الرسام فإن اللغة ومفرداتها هي أدوات الشاعر والكاتب ومن القضايا الأساسية الأخرى للشاعر، وقت الفراغ، تجربة الشاعر، دور النشر من صحف، مجلات، كتب .. الخ.
إن زحمة القرن العشرين والجري وراء لقمة العيش لا تترك الوقت لكاتب غير متفرغ لصياغة أفكاره وتجاربه على الورق تلك الأفكار والقصائد التي يحب الشاعر أن يراها منتشرة بين الناس.
ولعل أهم ما يشجع الشاعر ويدفعه لتطوير أدواته الفنية، هو نشر نتاجه وتناوله بالنقد والتشريح الأدبي، أما الكاتب الذي يصطدم بعقبات النشر من البداية فهو لا شك سيحبط وسيساهم ذلك في تقليص إبداعاته إلى أبعد الحدود.
لأنني كنت من محبي القراءة فقد كنت أتردد باستمرار على مكتبة الأمانة بالقدس لأطالع الصحف والمجلات، وما تصل إليه يدي من دواوين شعر ونصوص أدبية قديمة، كنت أطالع كل ذلك في المكتبة. ولم يكن يُسمح لي الاشتراك بالمكتبة لأن عمري كان أقل من 16 عاماً، وقد حاولت من خلال أحد الأقارب أن أحصل على اشتراك باسمه، على أن أستلم الكتب وأعيدها للمكتبة مباشرة.
وفي أحد المرات، حملت كتاب "إلياذة هوميروس" للبستاني الذي ترجمها من اليونانية للعربية وتوجهت لموظفة تسليم الكتب لتسجيل الكتاب باسم عمتي عزية التي سمحت لي أن أستلم الكتب باسمها، فنظرت إلي المشرفة عن المكتبة وتفحصتني من رأسي حتى قدمي وقالت لي:
أنت لا تستطيع أن تستلم هذا الكتاب، اذهب واقرأ كتاباً آخر أو قصة أخرى.هذا كتاب كبير عليك ولن تفهمه . فلم أقبل وحاولت إقناعها، ولكن عبثا فصصمت على موقفي ورفضت استلام اي كتاب آخر بدلا منه وتركت الكتاب وغادرت المكتبة منفعلاً، وتوجهت على الفور إلى عمتي شاكياً، فكتبت لي رسالة شرحت فيها لمدير المكتبة أنني طالب مجتهد يحب قراءة الكتب المذكورة ويفهمها جيداً.
فوافق مدير المكتبة على تسليمي الكتاب المذكور. وسُمح لي "بالطوشة" قراءة روائع الشعر اليوناني مترجماً للغة العربية.
بعد حضوري لأول مرة للولايات المتحدة عام 1976، صرت أتردد على مركز الجالية العربية، وأطالع هناك ما يصل من الصحف العربية ومنها الصحف الصادرة في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين مثل "الشعب" و "القدس" وغيرها.
في صيف 1977 وخلال قراءتي لجريدة الشعب وقعت عيناي على قصيدة منشورة في الصفحة الأدبية للطالب عمران الشرباتي من سكان بيت لحم. القصيدة كانت تتحدث عن أم شهيد تودع ابنها الجريح ودماؤه تسيل على الأرض قبل لحظات من استشهاده.
أعجبت بالقصيدة وزاد إعجابي بها أنني أحفظها فكلما قرأت شطراً من البيت أكملت الشطر الآخر قبل قراءته، فاستغربت كيف أحفظ قصيدة أقرأها أول مرة. استعنت بذاكرتي وبدأت أحك رأسي لأجد جواباً شافياً لما يجري، عدت إلى البيت وفتشت كتبي ودفاتري، فلم أعثر على شيء.
وفي إحدى الأمسيات بدأت بقراءة القصيدة مرة أخرى ثم أعدت قراءتها مرة ومرات وثارت عاطفتي وأنا أقرأ أبياتها الأخيرة التي تقول:
رأت الجراح بصدره فاستبشرت تختال كبراكانت جراح الصدر تهتف إنني وفيتُ نذراإني وربك لم أُدر يا أمّ للأعداء ظهرافدنت تقبله فقالوا ملتقاكم في الخلودقالت ودمع الفرحة الكبرى تلألأ في الخدودحسبي إذا ذكر الشهيد بأنني أم الشهيد
وما إن انتهيت من قراءتها الأخيرة حتى تذكرت أن هذه القصيدة لشاعر معروف يدعى مصطفى عكرمة وأنه نشرها في مجلة العربي الكويتية قبل ذلك بعدة سنوات. لم يكن حينها ما يثبت كلامي المذكور وكان علي البحث عن البينات.
ومن حسن الحظ أنني سافرت عائداً إلى القدس بعد ذلك بشهر، فاتصلت بالمشرف الأدبي في الجريدة وكان حينها السيد إبراهيم قراعين الذي لم يكتشف أن القصيدة مسروقة، فأعلمته بالأمر لكنه لم يصدق لأن القارئ المذكور لديه محاولات شعرية عديدة، وطلب مني البينات.
توجهت بعد ذلك إلى مكتبة الأمانة في القدس ثم مكتبة المدرسة العمرية وهناك أخذت بمراجعة نُسخ مجلة العربي الصادرة في السنوات الثلاث السابقة وساعدني على ذلك مدير المكتبة السيد محمد صب لبن، حتى عثرنا على القصيدة كاملة، فأخذت العدد بإذن من مدير المكتبة وذهبت إلى مقر جريدة الشعب وأنا "منفوخ" الريش وكأنني اصطدت غزالاً.
قدمت العدد لإبراهيم قراعين فانتفض غاضباً، ثم فتح أحد جوارير مكتبه فأخرج جميع رسائل الشرباتي ومزقها، وبعد أن استأذن مني قام بتصوير القصيدة "أم الشهيد" عن مجلة "العربي" وأعادها إلي بعد أن شكرني لجهودي في الكشف عن السرقة الأدبية .
لم أكن حقيقةً سعيداً لأن مشرف صفحة أدبية شكرني بل كنت في قمة السعادة لأنني دافعت عن شرف الشعر والشعراء وأكدت أن للأقلام حرمتها وللنصوص الأدبية حقوقا لأصحابها.
مرت السنوات وشاءت الصدف أن ألتقي السيد عمران الشرباتي فحاول بعد أن عرف اسمي أن يشرح لي أنه لم يسرق القصيدة وأنه أرسلها للجريدة لنشرها كقصيدة جميلة فقط .
منذ تلك الحادثة لم أقرأ اسم عمران الشرباتي في أية صحيفة أخرى. لقد كان درساً لمن يحاول أن يسرق نتاج شاعر موهوب.
كتب هذا المقال في أيار 1994
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |