عادل سالم في مجموعته القصصية «لعيون الكرت الأخضر»
السبت ٢٦ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم نازك ضمرة

حين تتاح الفرصة لتقرأ لكاتب ما، تشعر أنك تدخل عالماً جديداً يضيق ويتسع حسب قدرتك على استيعاب ما تقرأ، وكذلك للوقت والجو العام أهمية كبيرة في الأثر الذي يتركه النص في القارئ، ثم إن هناك عوامل أخرى أساسية تتواجد أو تتوالد بسبب تقارب أو تضارب فكر وثقافة القارئ مع فكر وثقافة كاتب النص، يضاف لهذا خبرة الطرفين في الحياة، هذه عوامل أساسية تؤثر فينا كتاباً كنا أو قراء، وفي رأيي أن أي قارئ يكون ناقداً إن كان مخلصاً في قراءته، ومتابعاً لمجريات الأحداث في أي نص نثراً أو شعراً أو دراما، وحتى كاتب النص نفسه يكون ناقداً لكتابته بشكل مختلف في كل مرة يعود فيها لقراءة مادة كتابته.

لقد سبق وقرأت لعادل سالم قصصا في مواقع وأوقات مختلفة، لكنها المرة الأولى التي أقرأ فيها المجموعة المعنونة «لعيون الكرت الأخضر» كاملة والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وللعلم إن عادل سالم يحمل الجنسية الأمريكية، وولد ونشأ وتربى وتعلم في مدينة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، لكنه كغيره الكثيرين من الشباب العرب الذين سحرتهم مظاهرالعظمة الأمريكية، وسطوتها الاقتصادية والعسكرية، فنجح في الهجرة والاستيطان بها، متزامناً في ذلك مع بدء وتواصل الغرباء والصهاينة في الاستيطان في فلسطين العربية المقدسة. وعادل سالم من مواليد ١٩٥٧ أي أنه ما زال في الخمسينيات من عمره.

لقد جرت العادة أن يختار المؤلف عنوان كتابه من معنى القصدية التي تدور في رأسه وقت صدور كتابه تلميحاً أو ترميزاً أو مباشرة، أو أن تحمل المجموعة عنوان إحدى قصصها، لأن الجو العام لكتابه ومقاصده ملخص أو مضمّن في هذه القصة، لكن واقع الحال في مجموعة عادل سالم القصصية، نجد أن كل قصصها تدور في أجواء ومجريات المعاناة من أجل الهجرة لأمريكا أو بعد النجاح بالاستقرار نظامياً فيها سعياً وراء النعيم الموهوم والغنى المأمول، أي أن العنونة هي موضوع كل قصص المجموعة، ويكتشف معظم المغامرين للوصول إلى أمريكا لهدف الحصول على الإقامة النظامية أنهم كانوا يجرون وراء سراب يحسبه الظمآن ماء، شقاء ومعاناة يتوالد عنهما نتائج إيجابية وسلبية في آن، كأي حياة في أي بلد آخر، لكن الإنسان العربي حين يولد ويكبر في بيئته يكون أكفأ عادة في التكيف مع مجتمعه وبلاده بسبب تشربه التراث وتطبيقه ببطء وبشكل تلقائي، بمعاونة الأهل والحارة والمجتمع والمسجد والكنيسة والنظم والقوانين المتبعة، والتي تسري على كل فرد دون تفرقة ولا تعنصر. أما حين يسافر إلى أمريكا مهاجراً فسيجد بيئة معادية من كل اتجاه، سواء في التعامل مع البشر او الأنظمة أو عادات الطعام واللباس واللهو والكلام واللغة والعادات والتقاليد ورموز الكرامة ومجالات الحرية والتحرر واستقلالية الفرد وشعوره بهذا التفرد، تفاصيل كل هذه البنود ترد في جميع قصص المجموعة جزئياً او كلياً، وبالتسرع في الحكم فإن الكاتب اراد أن يخبرنا رفضه أو عدم رضائه عن ظاهرة تفريغ الأقاليم العربية من خيرة شبابها النشطين، ليضحوا بشبابهم وقدراتهم لإعمار بلاد أخرى لا تكن الود ولا الصداقة للإنسان العربي، ولاتحفظ المعروف لهم ولا لأهاليهم. وكل قصة تقول للقارئ وللشاب أن الكاتب لا يشجع على هجرة الأرض التي نشأ بها الشاب، سعياً وراء الثروة والغنى المزعوم، وقد تصبح هذه الثروة هي المدمر لحياة الأنسان وأسرته وشرفه أو صحته، سواء أثناء سعيه للوصول لها أو بعد حصول الغنى.

وأهم ما أود قوله هو أن عادل سالم أبدع ايما إبداع في تشخيص هذا المرض العضال، وكل قصص المجموعة فيها نماذج من الآثار السيئة والسلبية الناتجة عن هجرة الشباب لبلادهم وشعوبهم وأثار أسئلة كثيرة، ومن الأمثلة على ما يتوقعه المهاجرون لأمريكا (الناس بتفكر أن كل واحد في أمريكا مليونير...) صفحة ٢٨، (وبعد موتي في أمريكا سينقرض اسم تميم، لأن أحفادي سيلحقون باسم ابيهم الأمريكي) صفحة ٨٦، (لكن يا رباب، لا يمكن الحصول على كرت إقامة بغير زواج؟، "فتجيبه رباب" اعرف ذلك، الديك عريس يتزوجني صورياً...) صفحة ٨٩. هذه النماذج هي إشارات ضوء حمراء دالة رامزة لما أراد الكاتب التنبيه له وكشفه بقوة وإصرار يكاد يكون مكرراً في كل حكاية.

وكشف عادل سالم عبر قصص مجموعته العشرين مشاكل مخفية تتطلب أبحاثاً وآراء وإجابات بمساهمات من كل عربي، لأنه لم يجد لتلك الأعراض علاجاً ولا حاول وصف أي علاج، وأعتقد أنه يعلم انه مرض خبيث عصي على المعالجات التقليدية المعروفة.

إن أسلوب عادل سالم السهل الممتنع في السرد يلامس العاطفة ويسحر مشاعر القارئ، فتأتي كتابته بأسلوب إنسيابي سلس سهل على التعايش معه وتتبعه، لا بل وجذاب يعرف كيف يؤثر في القارئ، فيجعله مشاركا كاتب النص في متابعة الحدث، وهذه النقطة جوهرية وتعتبر مقياساً لنجاح الكاتب في توصيل الفكرة التي يريد توصيلها لذهن القارئ، أي أن عقل القارئ يلامس عقل الكاتب، والنص ينجح أيما نجاح حين يساهم القارئ مع الكاتب في توصيل الفكرة وتفهمها، يقترب كثيراً من المشاعر الإنسانية في كل ما يكتب مما يجعله متميزاً بأسلوبه الروائي الحكائي. ويمكن تشخيص نصوص وحكايات «لعيون الكرت الأخضر» من ناحيتين:

[*الأولى*]: أسلوب عادل سالم القصصي، [*والثاني*]: ترابط القصص والأحداث وتشابهها في طبيعتها وبيئتها.

فقصص «لعيون الكرت الأخضر» هي حكايات يومية لأناس انغمسوا في حياتهم وتجاربهم بعمق وتحكي كل قصة تفاصيل يومية دقيقة تشهد على صدق الراوي العليم وخبرته واندماجه مع أبطال القصة وهم يبوحون بأسلوب لا يرتبط بمواصفات القصة القصيرة بشكل دقيق، فالكاتب متحرر من أي قيد، ويكتب بشكل انفعالي وفي تحرر من أي قيد بحماس منقطع النظير، وهي ميزة تحسب لكاتبنا عادل سالم، لأنه مخلص في عمله وتكتشف أن لديه قناعة بأنه سيغير العالم والعقول بكتابته او انه يهدف للوصول إلى هذه النتيجةالقصة القصيرة هي وليدة لحظة قصيرة، تبدأ وتنتهي في تلك اللحظة او الموقف الذي قد يطول دقائق او ساعة أو ساعات لكن بأحداث تتابع دون توقف، وللتغلب على كون القصة تحتاج إلى يومين أو شهور او سنين، فنستعين بالاستدعاءات، أي أن تبدأ القصة قرب وقت التنوير والنهايات، ونعود للماضي كذكريات، .(استيقظ أبو انور صبيحة اليوم التالي مبكراً....) صفحة ٢٦ ، (استيقظ مبكراً صبيحة اليوم الثالث...) صفحة ٢٩.

ومن الميزات الأخرى لأسلوب عادل سالم في هذه المجموعة اتكاؤه على المحكي اليومي، والاقتراب من العامية حين يتطلب الموقف بيان مستوى ثقافة أحد شخوص القصة.

أما توقفي الثاني في نصوص المجموعة، فهو تشابه القصص ومواضيعها، وهموم شخوصها، وكل قصص المجموعة لها هدف واحد هو الترهيب من عواقب مغامرات الشباب للهجرة إلى أمريكا، والنتائج الوخيمة التي قد تصيب المهاجر بشلل في حياته، كالسجن أو تقضي حتى على حياته بدل العودة لأهله وبلده سالماً ومعه ثروة، حتى لو بعد عشرين عاماً او أكثر، ليعود عجوزاً او مريضاً او مقعداً، ولا يسعنا إلا أن نعجب ونغبط كاتبنا على هذا الصبر في الوصف التسجيلي الدقيق لنماذج الخراب الذي يتراكم عبر كل القصص، وعلى الإحاطة العميقة بهموم الشباب الذين هاجروا لأمريكا.

[(
وقبل أن أختم مقالي العاجل لا يسعني هنا إلا أن أتمنى على عادل أن يواصل كتابة مثل هذه النماذج الواقعية وبعضها يتجلى بالواقعية السحرية ليصبح مجموعها الف قصة وقصة، أو خمسمائة وخمس قصص على الأقل، لأن المنهج الذي تجلى في قصص هذه المجموعة يشابه نمط حكايات (ألف ليلة وليلة) إلى حد كبير، وكأن عادل حين ينتهي من قصة يترك في نفوسنا أثراً ورغبة في قراءة حكاية جديدة، وحين ينتقل لقصة جديدة فإنه يضطرنا لمتابعته ليتحفنا بحكاية جديدة أخرى ليوم جديد، ويحمل القارئ معه برغبة ومتعة وكأنه يقرأ حكاية ليلة جديدة من ليالي الف ليلة وليلة، لهذا تمنيت إن كان بإمكانه أن يكتب الف قصة وقصة، لتصبح تراثاً تتداوله الأجيال وإنجازاً يضاف إلى ثراء لغتنا العربية والآداب، واؤكد أنها ستجد اهتاماً عالمياً بترجمتها للغات متعددة.)]

وفي الختام أنوه إلى ملاحظة تنطبق على الكثير من قصص المجموعة، وامثل لها بقصة عملية إعدام ناصر في القصة الأخيرة والمعنونة (بلستينا) والذي صدر بحقه وحق زوجته مكسيكية الأصل قراراً قطعياً بإعدامهما، وسؤالي هو كيف عرف الراوي العليم كل ما دار في عقل المحكوم عليه بالإعدام، وما تذكره في الدقائق الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام به، وحتى إن السارد العليم واصل سرد ما يدور في عقل ناصر أثناء تنفيذ حكم الإعدام به، وهذه التفاصيل والاستدعاءات هي التي شكلت مضمون القصة وتفاصيلها، علماً بأنه لا مجال لأحد بالتواصل مع المحكوم بالإعدام في لحظاته الأخيرة او التحدث إليه، هذا من ناحية، ولأنه كان ينطق بما في نفسه ولنفسه، ويتذكر كل ما مر به من مشاكل وأسباب أوقعته في جريمة قتل ابنته التي تمردت على آداب السلوك الاسري تأثراً بالحرية المنفلتة للشباب الأمريكان، ثم وإدمانها على شرب الكحول وتعاطي المخدرات، ومع شاب أمريكي أسود، مع إنه كان من الممكن جعل المحكوم عليه بالإعدام يقوم بسرد تلك الأفكار والذكريات لشخص من أهله أوللشرطي مثلاً في زيارة ما قبل يوم تنفيذ حكم الإعدام، ويمكن أن يكون السارد العليم مقبولاً في قصة او اثنتين من المجموعة القصصية، لكن أن يكون سائداً في جميع القصص فهو أمر جدلي، وللتغلب على تحييد السارد العليم ما أمكن طول الوقت، فيمكن للكاتب خلق شخصيات ليؤدوا المهمة المطلوبة كفضح حالة أو كشف تصرف ما، بحوار قصير أو عابر مع فاعل الحدث، ثم يخرجهم الكاتب بموت او سفر او خروج من مسرح الحدث.

ومثال آخر وأخير على فرض الراوي العليم لنمط تفكيره، بأن يضع الكلام في فم وعقل إنسان آخر، ففي قصة (من أجل ولدي) صفحة ٢٠١، يستأجر شوقي سيارة تاكسي حين زار بلدة زوجته في المكسيك ليخطف ابنه منها دون علمها، فادعى للسائق بأنه يستمتع بمشاهدة الشوارع العتيقة وأي مناظر محلية، فيتبادر إلى الذهن السؤال التالي: [**إن الراوي وهو ناصر شخصية القصة الأساس، كيف عرف ما كان يفكر فيه سائق سيارة الأجرة المكسيكي وفي بلده المكسيك؟*] (قال السائق في نفسه: مجانين هؤلاء الأميركان، يصرفون فلوسهم على الكلام الفارغ، ماله وللشوارع القديمة والزبالة التي تزكم الأنوف؟....) صفحة ٢١٨ ثم يقول السائق لنفسه: (المهم أن أقبض الخمسين دولاراً مساء اليوم، ومن يدري ربما يعطيني خمس دولارات زيادة) نفس الصفحة ٢١٨

وأخيراً إن ذكر قرية ترمسعيا لم يخدم القصة، وكان من الممكن شطبها أو ذكر أن ناصر من إحدى القرى الفلسطينية، أو منطقة رام الله دون تحديد لايفيد.

التوقيعات: 0
التاريخ الاسم مواقع النسيج مشاركة