شهيدا عند ربه
الخميس ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

كانت الانتفاضة تزيد اشتعالا في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينيات، وتستقطب اهتمام العالم لطابعها السلمي، وحجم المشاركة الجماهيرية فيها، فيما كانت إسرائيل تنشط في القضاء عليها، وكان جواسيسها يعملون ليل نهار ومع تصاعد علميات التخريب التي كان يقوم بها الجواسيس فقد اتخذت الحركة الوطنية قرارها بملاحقتهم وضربهم.

لاحظ بعض الشباب المشاركين في الانتفاضة شابا يظهر لهم من بعيد يحمل جهاز إرسال (لاسلكي)، يشبه ذلك المستخدم لدى أجهزة الشرطة والجيش، لم تكن الهواتف النقالة قد ظهرت في فلسطين. تشاور شبان الانتفاضة وقرروا ملاحقة ذلك الشاب لأنه يتجسسس عليهم.

اختبأ بعضهم في أحد الأزقة وانتظروا مروره من هناك، ثم أطلقوا عليه النار، وقبل انسحابهم سرقوا منه جهاز الإرسال ليعلنوا بعد ذلك عن نجاحهم في اصطياد أحد الجواسيس الذي كان يلاحقهم.

جلس الشبان المنتفضون في أحد البيوت يتفقدون ذلك الجهاز الذي حصلوا عليه، شعروا بنشوة النصر لأنهم انتصروا على المخابرات الإسرائىلية، بدأوا باستخدام اللاسلكي للتمويه على المخابرات الإسرائيلية، ولكنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونه.
ظلوا يحركون أزراره ويضغطون عليه حتى سمعوا صوتا قادما من بين ثقوبه السفلية:
 ألو ألو كابتن سليمان معك حول..
صمتوا ولم يرد أحد منهم، بعد ثوان عاد نفس الصوت يقول:
 ألو ألو كابتن سليمان معك حول..
صمت طويل، فجأة سمعوا الصوت يقول:
 ألو ناصر أين أنت؟ حول.
مسك أحد الشبان الجهاز، غير صوته ثم رد على الصوت القادم.
 ناصر مات حول. ناصر قتلته الانتفاضة حول.
فجأة قال لهم نفس المتحدث:
 من أنت؟ من المتحدث؟ أين ناصر؟
 قلت لك قتلته الانتفاضة.
 يا كلب، يا حمار، أين ناصر؟
 لقد قتلناه أيها الجاسوس.
 جاسوس أنت وأهلك جاسوس يا ابن الشرموطة.

أغلق المنتفضون الجهاز وهم يفركون أيديهم فرحا لنجاحهم في إخافة الجاسوس الثاني.

اكتشف المارة جثه ناصر ملقاة على الأرض، وعندما وصل الخبر إلى أبيه جن جنونه. لقد قتله اليهود، لكنه فوجئ في اليوم التالي ببيان يوزع في البلد بأن الانتفاضة قد قتلت أحد الجواسيس (ناصر) الذي كان يلاحق شبان الانتفاضة.

أصيب أبوه بحالة هستيرية، ذهب على الفور إلى بيت أحد أصدقاء ابنه (ابن جاره أحمد المراغي)، سأله عن آخر مرة كان فيها مع ابنه فقال له:
 كنت ألعب معه يوم أمس حينما اختفى…
وشرح له ماذا حصل عندما أراد الحديث معه عبر جهاز الإرسال. مسك الأب جهاز الإرسال، نظر إليه، ضغط على زر الإرسال وبدأ ينادي:
 ألو ألو هل تسمعني.
كرر المحاولة عدة مرات، فجأة سمع ردا غير واضح فقال لهم:
 ألو أنا أبو ناصر من أنتم؟
 أنت أبو ناصر، عوضك على الله لقد قتلناه لأنه يتجسس علينا، بلغ المسؤولين اليهود أصحابك بذلك.
 قتلتموه لأنه جاسوس؟ كيف عرفتم أنه جاسوس؟ ألا تعرفون أن عمره 15 سنه فقط، وأن هذا الجهاز الذي معكم هو لعبة ووكي توكي اشتراه له عمه من أمريكا. حرام عليكم ترتكبون الجرائم باسم الوطن. تتهمونه بالجاسوسية، هل حققتم معه؟ من أنتم تعالوا أروني وجوهكم. وبدأ يبكي.
مسك جاره الجهاز وبدأ ينادي عليهم:
 يا شباب ما قمتم به جريمة. لقد قتلتم شابا بريئا، عليكم تبليغ مسؤوليكم بجريمتكم، وأغلق الجهاز.

ارتبك المنتفضون. ولم يصدقوا ما سمعوه، نظروا إلى الجهاز وأغلقوه. آخر شيء توقعوه أن يكون الجهاز لعبة. لقد وقعوا في الفخ.

طفل يقتل بسبب لعبة تعمل على بطارية.

الإذاعة الإسرائيلية تذيع الخبر في كل نشرة أخبار لتظهر الانتفاضة بمظهر المجرم. كان الناس مستاءون في المدينه المقدسة، وما أن وصلت الأخبار إلى مسؤول القدس في منظمة التحرير (فيصل الحسيني) حتى أعلن إدانة لمنفذيها، وطالب مسؤوليهم بمحاكمتهم.

وبوفد من وجهاء البلد ورجال الدين فيها ذهب فيصل الحسيني إلى بيت أهل ناصر يقدم العزاء، ويعلن عن أسفه لهذا الحادث المؤلم.

أحد المسؤولين في الوفد أكد لوالد الطفل أن الجناة سيعاقبون، وإنه يعد ابنهم شهيد الوطن، والانتفاضة.
كان والده حزينا، أكثر ما كان يؤلمه اتهام ابنه بالتجسس. قدم للوفد جهاز الإرسال الثاني، وشرح لهم ما حصل.
تقدم السيد فيصل وقدم لأهل الشهيد مبلغا من المال كفدية (دية).
رفض الوالد دية ناصر، قال لهم بغضب:
 ابني ليس للبيع.
 لا تفهمنا خطأ، لكن الدية جائزة في الإسلام.
نظر إليهم والدموع تنهمر من عينيه.
 الشهداء لا دية لهم، وقد احتسبته شهيدا عند ربه، شهيدا عند ربه.


التوقيعات: 0
التاريخ الاسم مواقع النسيج مشاركة