/B_rub>
عز الدين المناصرة
علم من أعلام الشعر، والأدب، والفكر الفلسطيني، والعربي ملأ سماء الساحة الفلسطينية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين عندما علا صوته كأحد شعراء المقاومة المركزيين الذين حملوا راية الشعر على كف، والبندقية في الكف الأخرى، فكان ما يكتبه نابعا من الجرح، والروح معا.
شاعر غني عن التعريف عرفته من شعره منذ كنت طالبا في المدرسة، وكنت واحدا من الذين أعجبوا به، وأحبوه، فقد انتشرت قصائده خصوصا قصيدة جفرا بين الشباب الفلسطيني في الوطن المحتل، وخارجه.
[*أرسلتْ لي داليةً
وحجارةً كريمة
مَنْ لم يعرفْ جفرا فليدفن رأْسَهْ
من لم يعشق جفرا فليشنق نَفْسَهْ
فليشرب كأس السُمِّ العاري
يذوي، يهوي
ويموتْ
جفرا جاءت لزيارة بيروت ْ
هل قتلوا جفرا عند الحاجز؟؟
هل صلبوها في تابوت؟!*]
شارك في الثورة الفلسطينية المعاصرة (1964-1994) ضدَّ (إسرائيل والمتأسرلين). وكان الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل السلاح وخاض المعارك في المرحلة اللبنانية (1972-1982). أبعدته السلطات الأردنية بقرار رسمي، بتاريخ (10/12/1982)، عندما زار عمّان، قادماً من (حصار بيروت 1982) حيث كان يعيش، وسحبت منه الجنسية الأردنية، لكنها أعادتها له في أيلول، 1991. ولم يستطع دخول فلسطين (مسقط رأسه) منذ عام (1964-وحتى اليوم) رغم أنها سمحت لقادة أوسلو بدخولها والعيش فيها!!!
الحوار مع عز الدين المناصرة متشعب، فهو شاعر، وناقد أدبي، وأكاديمي، ورمز من رموز النضال الوطني، عندما حاورته وجدت نفسي في رحلة ممتعة دون أن أدري شعرت خلالها أنني أكتشف عز الدين المناصرة من جديد.
لم يكل ولم يستسلم، ظل صوته عاليا، تابع دراسته وعلومه فحصل على الدكتوراة بعد مرحلة كفاح مريرة.
وفي غمرة الانهيار الثقافي، والفكري ظل أمينا على حمل الراية لم يلقها، ولم يساوم عليها، وأصر ألا يمنحها إلا لمقاوم آخر سيكمل المشوار.
عز الدين المناصرة نرجو أن نكون في حوارنا معك قد أوفيناك بعض حقك علينا.
[(
أنت تنتمي لجيل (شعراء المقاومة)، الذي نهض منذ منتصف الستينات، ماذا بقي من (شعر المقاومة)، اليوم؟)]
[**(المناصرة)*]: ولدتْ (ظاهرة شعراء المقاومة) مع تأسيس وصعود منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست في (28/5/1964- القدس) بقيادة أحمد الشقيري، وساهمتْ انطلاقة (حركة فتح) في (1/1/1965)، في خلق الطقس الثقافي الملائم لفلسفة التحرر الوطني، والكفاح المسلّح. كما ساهمت (معركة الكرامة، 1968) في رفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني.
– وبتاريخ (15/10/1964) غادرتُ فلسطين من (مطار قلنديا) في القدس إلى القاهرة للدراسة في جامعة القاهرة، ومنذ ذلك اليوم، لم يُسمح لي بدخول الوطن حتى اليوم. وكنت بعد هزيمة 1967، أُراسل عائلتي في فلسطين، عبر الصليب الأحمر الدولي حتى شباط 1970، حيث غادرت القاهرة إلى عمّان.
– البداية الحقيقية لظاهرة (شعراء المقاومة) الفعلية في (شمال فلسطين) عام 1966، حين نشرت قصائدهم (لأول مرّة) في (مجلة الأفق الجديد المقدسية). وهكذا سمعنا لأول مرّة بأسماء ثلاثة شعراء ينتمون إلى (فلسطين – 48) – وكنت آنذاك أعمل مراسلاً صحفياً لهذه المجلة في القاهرة.
– وبالمقابل: ظهر (شعراء الثورة الفلسطينية) في الفترة نفسها في المنفى. فنحن أبناء (جيل شعري واحد). أنا مثلاً من مواليد (الخليل، 1946)، أما محمود درويش فهو من مواليد (عكا، 1941). إذن يتحدد مفهوم (الجيل الشعري) من خلال تفكيك الظاهرة الشعرية، وليس من خلال الأعمار، لأن توفيق زيّاد مثلاً، أكبر سنّاً من محمود درويش بحوالي (12 سنة). وسميح القاسم أكبر سنّاً من درويش بحوالي (4 سنوات). وينطبق الأمر نفسه تماماً على (شعراء الثورة في المنفى): معين بسيسو أكبر من درويش بحوالي (15 سنة).
– قرأت مؤخراً أن (التصنيف الجغرافي) إلى شمال وجنوب لا يصلح أيضاً، ولا (التصنيف الإديولوجي)، لأن شعراء الشمال (يتناقضون) إديولوجياً مع شعراء الثورة في المنفى. هناك محاولة نقدية وردت في الكثير من المقالات لم يكن معترفاً بها سابقاً، وهو (تصنيف جديد): ويمكن وضع الملاحظات التالية على هذا (التصنيف الجديد)، وهي ملاحظات مهمة وخطيرة، تستدعي إعادة النظر الجذرية:
1. (شعراء المقاومة): محمود درويش – سميح القاسم – توفيق زيّاد – راشد حسين. وهم ينتمون جغرافياً إلى (عكا – الرامة – الناصرة – أم الفحم)، أي أنهم ينتمون إلى (كتلة شمالية متفاوتة جغرافياً).
– انتمى (درويش – القاسم – زيّاد) إلى عضوية الحزب الشيوعي الإسرائيلي. أما راشد، فهو ينتمي أيضاً إلى (حزب مابام الإسرائيلي).
– هناك إجماع على أن أقواهم شعرياً هو محمود درويش.
– انشقّ (درويش) عن حزب (راكاح الإسرائيلي)، والتحق بجماعة (شعراء الثورة في المنفى) عام (1974) في بيروت، بعد أن مرّ بمحطتين قصيرتين هما: (موسكو) في المدرسة الحزبية، حيث التقى بالناقد المصري الماركسي (محمود أمين العالم)، والمفكر السياسي اليساري (لطفي الخولي)، حيث عرضا عليه التوجه إلى (القاهرة). أما في القاهرة، فقد عمل صحافياً في (جريدة الأهرام)، بتشجيع من (أسامة الباز)، مستشار الرئيس السادات وحسني مبارك للشؤون الإسرائيلية. وما لبث درويش أن انتقل إلى بيروت.
– إذن اتفق عدد من النقاد والشعراء العرب على أن مصطلح (شعر المقاومة)، ولد ملتبساً، فقيل آنذاك أن شعرهم ليس (شعر مقاومة) لكنه (شعر احتجاج) من قلب النظام الإسرائيلي ضدّ مساوئ الاحتلال. هذا ما قاله: (أدونيس – غالي شكري – يوسف الخطيب). وقال هؤلاء: كيف يكون عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، أو عضو الكنيست – مقاوماً فلسطينياً، ما دام يخدم الدعاية الإسرائيلية!!
2. (شعراء الثورة الفلسطينية) في المنفى: (عزالدين المناصرة – معين بسيسو – مريد البرغوثي – أحمد دحبور):
– قال صاحب هذا التصنيف (سمير التميمي)، الذي نشر في موقع (تلفزيون المقاومة اللبنانية – المنار (2014)) بأنه اعتمد على قراءات كثيرة، أبرزها توصيف الشاعر اللبناني (محمد علي شمس الدين) وآخرين. بل إن (شمس الدين) عاد في (ديسمبر 2016 – موقع عيترونيات)، ما هو أكثر وضوحاً.
– ويبدو أن التصنيف أخذ في الحساب عدة وجهات نظر:
أ. هناك ملاحظة تقول بأن (معين بسيسو)، كان (شاعر مقاومة) منذ الخمسينات أي قبل الثورة، حيث قاد المظاهرات الجماهيرية في غزّة ضد (التوطين). أما (عزالدين المناصرة)، فهو (الشاعر الفلسطيني الوحيد) في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية (1972-1982)، الذي حمل السلاح، وشارك في ثلاث معارك ضدّ إسرائيل والمتأسرلين: (كفرشوبا – المتحف – المطاحن).
ب. أخذ هذا التصنيف بـ(درجات الحداثة الشعرية)، فوجد أن ما قاله محمود درويش في وصيته قبل وفاته بأسبوعين في حواره الأخير مع الدكتور فيصل درّاج، وجده صحيحاً، حيث قال درويش ما يلي: (ما زلت مُعجباً ومقدّراً لأعمال عزالدين المناصرة الشعرية، والمرحلة الأخيرة من شعر مريد البرغوثي – (أخبار الأدب المصرية – أغسطس 2008)).
جـ. صدر حتى اليوم (2018)، ما يزيد عن (35 كتاباً نقدياً) حول (شعر المناصرة)، أغلبها رسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعات العربية: (مصر – لبنان – سوريا – الأردن – الجزائر – المغرب – العراق – فلسطين)، لكن هذه (المعرفة العلمية النقدية العميقة) تجاهلتها (الميديا)، بل وأخفتها بقصد إديولوجي. ويلاحظ أيضاً أن هذه الكتب صدرت بعد عام (1999)، رغم أن الشاعر نشر (11 ديوناً شعرياً) منذ عام 1968. أي أنه في ظل الثورة الفلسطينية المعاصرة، لم يُنشر عنه كتاب واحد!!.
د. المفاجأة – المفارقة التاريخية، هي أن قيادات فصائل الثورة كلها بلا استثناء (شطبتْ منذ عام 1967 وحتى اليوم) – (شعراء الثورة الفلسطينية والكفاح المسلح). لكنها فضّلت (شعراء المقاومة الملتبسة)، مع أن هذه القيادات لا تفهم جوهر الشعر.
هـ. شاع منذ أوائل الألفية الجديدة في بعض وسائل التواصل الثقافي، بأن وزيراً سابقاً للثقافة، أرسل تعميماً يطالب المؤسسات الإعلامية في السلطة الفلسطينية، بتجاهل ثلاثة (غسّان كنفاني – عزالدين المناصرة – ناجي العلي) على وجه التحديد، الذين هم (آباء الحداثة) والتحديث الأدبي في الرواية، والشعر، والفن.
– (المقاومة) عندي فكرة مقدّسة، وهي فكرة ذهبية، لا تفقد حداثتها، وهي تجدد آلياتها باستمرار. وكنا وما زلنا نؤمن بأن المقاومة لها أشكال عديدة، منها (المقاومة الشعبية)، وعلى رأسها (الكفاح المسلح). أحياناً لا يترك (المستعمر) مجالاً للتفاهم أو يكشّر عن أنيابه، حيث لا تنفع المقاومة الشعبية!!. لقد أحدثت (الانتفاضة الثانية في فلسطين)، ما أطلق عليه (توازن الرعب)، رغم الخسائر البشرية لدى الطرفين: (الأصلي والمستعمر). أما (المقاومة الشعرية)، فهي أمر مختلف، حيث يجب فهم جوهر الشاعرية، وفهم جوهر المقاومة الشعرية معاً، انطلاقاً من مفهوم الحداثة والتحديث. فالمقاومة ليست حالة تاريخية عابرة، إذا فهمنا (جوهر الشاعرية + جوهر المقاومة معاً). وهي حالة أبدية لتصحيح أخطاء العالم، لكن أهم أولوياتها هي (مقاومة الاحتلال، والتخلف، والعنصرية، والانغلاق).
[(أصدرت ديوانك (جفرا أُمّي إنْ غابت أمي، 1981). كيف استطعت أن تتفوق على (الفولكلور) كما أجمع عدد من النقاد، فأصبح اسم (جفرا) مرتبطاً بك؟ وهل ما زال تأثير قصيدتك مستمراً؟ كذلك، فإن اسمك ارتبط باسم (الخليل) في الأدب.)]
[**(المناصرة):*] في الأصل، هناك نمط شعبي فلسطيني محدود باللهجة الفلسطينية، ولد عام (1939) في قرية (كويكات – عكا). وحتى عام (1982)، لم يكن أحد يعرف شيئاً عن قصة جفرا، لأنها كانت محبوسة في صدور أهالي (كويكات)، وكانوا بحكم بيئتهم الريفية يخجلون من ذكرها. وكان النمط الغنائي مجهول المبدع، كان الناس يعتقدون أنه يشبه (الميجنا، والعتابا، وظريف الطول، وع الأوف مشعل)، وغيرها من أغاني بلاد الشام.
– في (عام 1976) تعرفت في بيروت حيث كنت أعيش؛ على فتاة فلسطينية اسمها الحقيقي (جفرا إسماعيل النابلسي)، وكادت علاقتي بها تصل إلى مرحلة الزواج، ولكن طائرة إسرائيلية آنذاك قصفت بيروت، وكان من ضحايا القصف هذه الفتاة. كانت طالبة في السنة الأولى الجامعية في إحدى جامعات بيروت. هذه هي (جفرا الشهيدة)، التي أحببتها، حين اقتربتُ من سن الثلاثين تقريباً.
– بكيت لاستشهادها، وبعد أسبوع تقريباً، كتبت قصيدتي الشهيرة (جفرا أمي)، أو (جفرا الوطن المسبي)، ونُشرتْ في إحدى الصحف اللبنانية، فالتقطها الفنان (خالد الهبر)، وغناها بإيقاعات أوروبية، فانتشرت وحفظها الشباب آنذاك. ثم فوجئت بأن (مارسيل خليفة) قد غناها في أول أسطوانة له في حياته الفنية، صدرت في باريس في أغسطس 1976 مع قصائد لمحمود درويش. وتنافست (جفرا) مع قصيدة درويش (أحنُّ إلى خبز أمي). وغنتها لاحقاً (2008) المطربة التونسية (أمل المثلوثي)، والمطرب الشاب الفلسطيني (محمد عبدالقادر الفار). وتُرجمت القصيدة إلى عشرين لغة أجنبية، نقلاً عن الترجمة الفرنسية. وتحوّلت إلى فلم سينمائي يوغسلافي عن لبنان وفلسطين، عُرض في مهرجان السينما الدولي في موسكو عام 1980. واستطاعت قصيدتي، وليس الفولكلور، أن تتوغل في الذاكرة الجماهيرية، حيث تسمَّت عشرات المؤسسات في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان باسم (جفرا)، منها المقاهي، وأسماء بنات أطلق أهلهن عليهن اسم (جفرا). وقد افتتحتُ بنفسي (مقهى جفرا الثقافي) بعمّان، لصاحبه عزيز المشايخ، عام 2006، زاره مثقفون عرب كثر، وشعراء منهم: (محمود درويش، سميح القاسم، أدونيس... إلخ).
– في عام (1982) – كنت أول من اكتشف المغني الشعبي الذي أبدع (جفرا التراث). حدث ذلك صدفة، حين شاركت في أمسية شعرية في (مخيم عين الحلوة – قرب صيدا)، فطلب الجمهور أن أقرأ قصيدتي (جفرا)، فقرأتها. وبعد الندوة جاء لي رجل يدعى (أبو عبدالله) وقال لي: هل تحب أن تتعرف على (راعي الجفرا)، فأجبته: هذه الأغنية الشعبية وغيرها لا نعرف مبدعها الأصلي. قال لي: لن تخسر شيئاً إذا زرته للتأكد من الأمر. وهكذا ذهبت معه، وقمت بدراسات (استقصائية) للموضوع، وأنجزت دراسة بعنوان: (الأصل التراثي للنمط الغنائي، جفرا)، نُشرت في (عدد حزيران، 1982 من مجلة شؤون فلسطينية)، التي كنت سكرتير تحريرها.
– العاشق اسمه (أحمد عزيز علي الحسن) من قرية كويكات – قضاء عكا، عشق ابنة عمّه (رفيقة نايف حمادة الحسن)، لكنه ضربها ضرباً قاسياً في (ليلة الدخلة)، فهربتْ إلى بيت أهلها، ورفضت أن تعود إليه... وعندما هاجمه الندم، صار يغني لها في الأعراس باسم مستعار هو (الجفرا)، والجفرا هي أنثى الغزال، والماعز لم يبلغ حولاً. أما الحادثة فقررت بعد بحث طويل، أنها حدثت عام (1939) – لاحقاً عام 1993 أصدرت كتابي بعنوان: (جفرا الشهيدة، وجفرا التراث)، وطبع ثلاث مرّات.
– (أحمد عزيز) رجل بسيط، قابلته ثلاث مرّات في منزله بمخيم عين الحلوة. وغنى أمامي بصوته الشجي الجميل، توفي عام 1987 في منطقة الناعمة، جنوب بيروت. وتوفيت جفرا عام (2007)، وزرتُ قبرها في مقبرة مخيم برج البراجنة في بيروت، بتاريخ (19/9/2008). والمفارقة هي أنني وجدت على بعد مترين من شاهدة قبرها – شاهدة أخرى لفدائي فلسطيني ينتمي لعائلتي (المناصرة). أما (جفرا)، فقد شاهدتها شخصياً، واستمعت لحوارها مع مدرّس من بلدتها، اشترط علي أن لا أسألها أي سؤال حول قصتها مع أحمد عزيز. وقيل لي لاحقاً أن (أحمد عزيز) طلب من أولاده أن يرى جفرا، وهو على فراش الموت. فكانت كريمة معه لأنه ابن عمها، وزارته، وطلب منها أن تسامحه. فسامحته. تزوجت جفرا من ابن خالتها، وأنجبت منه أولاداً. وتزوج أحمد عزيز من امرأة أخرى هي أم أولاده. وسمعتها في منزلهما تناديه باسم (أبو علي الجفرا). وهكذا نقلتُ قصة جفرا من محليتها الفلسطينية المحدودة إلى عالم أوسع عربياً وعالمياً.
[(نكبة (15 أيار 1948)، كنت طفلاً كثير الأسئلة، ماذا بقي في ذاكرة عزالدين المناصرة الأولى؟)]
[**(المناصرة):*] ولدتُ في (بلدة بني نعيم الخليلية) شرقي الحرم الإبراهيمي الشريف على بعد (7 كم) فقط في (11/4/1946)، أي أنني دخلت عامي (الثاني والسبعين). ومعنى ذلك أنني ولدت قبل تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي بعامين. أي أن (إسرائيل) عندما ولدتُ، لم تكن في خارطة العالم. ولدتُ أيضاً على بعد (20 كم) من بيت لحم، مكان ولادة المسيح، وعلى بعد 40 كم من مسرى محمد (ص) في القدس. أي أنني ولدتُ في دائرة الأنبياء الثلاثة (إبراهيم – عيسى المسيح – ومحمد). لكن أثر النكبة كان واضحاً في طوابير اللاجئين، بعد عام 1948 في مخيمات الوطن والشتات. واكتشفت متأخراً للأسف أن معنى (فلسطين – 48)، لا يعني فقط كتلة المدن الشمالية، فقد هجّر ما يقرب من (مليون فلسطيني)، أغلبهم من الشمال الفلسطيني، لكن ما لا يعرفه البعض، هو أنه تمّ تهجير أكثر من (نصف مليون) من (الجنوب الفلسطيني: قرى الخليل، ومدينة بئر السبع، وجنوب الساحل الفلسطيني، أي قرى شمال غزة). وعندما جاء لاجئون إلى بلدة (بني نعيم)، مسقط رأسي، استقبلهم أهلنا بالترحاب، بل أصدروا (وثيقة إخاء)، ولأن عائلتي الكبرى منفتحة أكثر، فقد تزاوجوا مع أبناء وبنات اللاجئين، وهم ما زالوا في البلدة حتى اليوم. تظل (الخليل – بيت لحم – القدس)، في قاع ذاكرتي بكل تفاصيلها. كنت أذهب مع والدي إلى المسجد الأقصى، وكان والدي عندما كبرت يسرد عني قصصاً، بأنني (طفل كثير الأسئلة)، فقد سألته أمام (الصخرة). أنت قلت لي أنها طارت في السماء وراء الرسول، ولكنها ما تزال على الأرض. وكنت أسأله مثلاً: (البحر الميت، لماذا هو ميت!!). ولم أعرف معنى الموت الحقيقي، إلا بعد أن ماتت أختي الصغيرة ولفظت أنفاسها الأخيرة، وكان اسمها (هند)، فأصبح البحر الميت مثل هند. هكذا كنت أقول لأبي – مُزارع كروم العنب، الذي كان يعرف تاريخ كل حجر في سلاسل مدرجات الكروم، حيث يتعامل مع هذه الأحجار برفق وحنوّ. وفي (مدرسة ابن رشد)، كنت دائماً خطيب الطابور الصباحي، حيث يخصص وقتا للحديث عن نكبة فلسطين، وثورة الجزائر. ذات مرّة خطبت، واكتشفت أثناء ذلك أن في حذائي مسمار يؤلمني، لكنني واصلت الخطبة، وما إن انتهيت حتى وجدت أن الدم يملأ حذائي وبنطلوني. كنا نرى البحر المتوسط، والبحر الميت من أعالي جبال الخليل، لكننا لا نستطيع أن نلمسهما، لأن العائق هوالاحتلال الإسرائيلي.
– أما (اللاجئون في المنافي)، فقد عملت معهم مباشرة مرتين:
1. عندما سقط (مخيم تل الزعتر) شرق بيروت بعد معركة بطولية ضدّ المتأسرلين، سقط خلالها حوالي (4 آلاف شهيد وشهيدة)، وتم تهجير أهل المخيم إلى بيروت. كلّفني (عرفات) بتأسيس (مدرسة أبناء وبنات مخيم تل الزعتر) في (الدامور المدمّرة) جنوب بيروت، وذلك في شهر أغسطس بعد سقوط المخيم في (12 آب). وقد أنجزت المهمة، لأن أهل الدامور كانوا قد هجروها بعد معركة الدامور في يناير 1976. وبقيت مديراً للمدرسة حتى مطلع عام 1977، لأن الأونروا رفضت أن تتولى المسؤولية، ولأنها اشترطت أن يكون المدير من موظفي الأونروا، وليس من الثورة. هكذا استقلت بعد زيارة عرفات للدامور في مطلع العام الجديد.
2. وفي العاصمة الأردنية عمّان، كنت (عميداً لكلية العلوم التربوية – جامعة الأونروا)، في العام الجامعي 1994-1995. لكن الأمم المتحدة، ممثلة بالأونروا، اتخذت قراراً بإغلاق الكلية، تحت ذريعة (نقص الأموال)، و(تحقق السلام بعد اتفاق أوسلو). وعندما وضعوني أمام الحائط المسدود، كان يجب أن أدافع عن طالبات وطلبة الكلية (حوالي 800)، فاضطررت (للاحتجاج العلني) بعد أن استنفذت كل الحوارات الداخلية، لكنهم أصرّوا، وأصدروا قراراً بفصلي من عملي كعميد وكأستاذ، عندئذ دخلت معهم في معركة، كانت نتيجتها خروج مظاهرات واعتصامات أمام مباني الإونروا في عمّان، تطالب بعودة الكلية وعودة العميد، وجاء المفوض العام من (فيينا) واسمه آلتر توركمان وقابل رئيس الوزراء الأردني، واتصل مع السلطة الفلسطينية، فأعلن في مؤتمر صحافي (إعادة فتح الكلية، وزيادة سعتها بـ350 طالباً، وتعيين (12 حامل دكتوراه جديد)، لكنه أصرّ على (فصل العميد). بالمناسبة فُصل آلتر توركمان من عمله في الأمم المتحدة بعد أربعة أشهر (بتهمة الفساد، وسوء إدارة مشكلة كلية العلوم التربوية)، لأن المشكلة وصلت إلى نيويورك، وكانت تهمتي الوحيدة، هي: (الاحتجاج العلني).
[(يُقال إن (نكبة 1967)، أثرت فيك فكرياً وشعرياً، كيف؟ ولماذا؟)]
[**(المناصرة):*] كنت أعيش في القاهرة، منذ أن دخلتها للدراسة، عام (1964)، وانطلقت، بل بدأت نضالاتي منها حيث أصبحت عضواً في (الاتحاد العام لطلبة فلسطين – فرع القاهرة) في نوفمبر من العام نفسه. وفي عام (1966)، كنت (مرشحاً مستقلاً) في قائمة (حركة القوميين العرب)، وقبل ذلك، أي مع انطلاقة الثورة الفلسطينية (حركة فتح) عام 1965، قمت بطباعة (بيان العاصفة الأول) من مصروفي الشخصي. وزعته في جامعة القاهرة. لكن أجهزة الأمن المصرية، استدعتني للتحقيق معي، وكنت طيباً حين استغربتُ الأمر!!. أما، عام 1967، فقد عشت مرارة الكارثة. وتلقيت (دورة عسكرية)، بإشراف ضباط مصريين، لكنهم رفضوا إرسالنا إلى جبهات القتال. أصبحت أيضاً عضواً في (الجمعية الأدبية المصرية) التي كان يقودها الشاعر صلاح عبدالصبور، والدكتور عزالدين إسماعيل. وبدأت بالتردد على (مقهى ريش)، للمشاركة في حوارات أسبوعية مع (نجيب محفوظ). كان نجيب محفوظ آنذاك في الخمسين من عمره تقريباً. وكان شخصية إنسانية متواضعة، يسألنا عن أحوالنا الشخصية. وكان سريع البديهة، ذات مرّة، قلت له: إن الرئيس العربي الفلاني، أصدر قانون قطع يد السارق. ففاجأني فوراً بقوله: (أمَّال الوُزرا عندنا.. حَيمضوا إزاي)!!، فقهقه كل الحضور. لكني انقطعتُ عن زيارة مصر احتجاجاً على كامب ديفيد، انقطعتً (36 عاماً)، أي حتى عام (2003)، حيث دُعيت إلى (مهرجان البحر المتوسط الشعري الأول). استعدت أصدقائي القدامى، وتعرفت على شعراء أوروبيين. وأتذكر أنني التقيت مع زوجة (بورخيس) الكاتب العالمي الشهير، واسمها ماريا كوداما، فحاورتها في الفندق حول (زيارة بورخيس لإسرائيل عام 1969)، فأنكرت معرفتها بذلك، وقالت أنها تزوجته بعد ذلك. وشرحتُ لها (وهي محامية)، بشاعة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. كذلك زرت منزل ومتحف الشاعر اليوناني المصري في الإسكندرية (كفافيس)، صاحب قصيدة (بانتظار البرابرة)، التي أحببتها منذ الستينات. أيضاً، عشت في مصر مرارة (نكبة 1967)، التي خسرنا فيها، (الضفة الفلسطينية)، و(قطاع غزة)، و(سيناء)، و(الجولان السوري)، في ستة أيام.
– هنا أتذكر، كيف ولدت في شعري (شخصية امرئ القيس)، وكنت قد تنبأت شعرياً من خلال توظيفي لرمز (زرقاء اليمامة)، قصيدتي التي نشرت في (مجلة الآداب البيروتية، عدد ديسمبر 1966). قرأتها في الجمعية الأدبية المصرية، وكان من الحضور عزالدين إسماعيل، وصلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، وهو من أبناء جيلي الشعري. وكنت آنذاك قد اخترت لنفسي الخط باتجاه (توظيف التراث العربي في الشعر الحديث). وفي (مارس 1968)، وصف أمل دنقل كارثة 1967 في قصيدة عنوانها (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) فاتهمه أحد المصريين بسرقة الرمز بنفس المعنى، ولأن أمل دنقل كان صديقي، فقد اضطررت للدفاع عنه. ودافع عني الشاعر السوري (محمد عمران)، والناقد السوري (محي الدين صبحي)، وبقي الأمر معلقاً حتى حسم الأمر (الدكتور محمد مشعل الطويرقي) في بحث علمي له عنوانه (تجليات زرقاء اليمامة في الشعر العربي الحديث) – مجلة جامعة أم القرى، العدد الثاني، يوليو، 2009) بقوله: (أول من أدخل رمز زرقاء اليمامة، في الشعر العربي الحديث، هو الفلسطيني عزالدين المناصرة)، عام 1966.
– حضرت أيضاً خطاب استقالة (الرئيس جمال عبدالناصر)، الذي أعلن في التلفزيون – استقالته. وكنت في المقهى المجاور لبيتي في (منطقة المنيل). خرجت من المقهى بعد خمس دقائق، فوجدت عشرات الآلاف من البشر، قد خرجوا إلى الشوارع، مطالبين الرئيس بالتراجع عن الاستقالة. وذهبت مع طوفان الجماهير من (المنيل) إلى (ميدان التحرير). وأنا أشهد أنه من المستحيل أن يستطيع أي جهاز مخابرات في العالم كله، تحريك مئات الآلاف. توجه الرئيس إلى (البرلمان المصري)، وكان في سيارته يبعد عني مترين فقط. حييته، فحيَّاني، وابتسم. وكنت قد رأيت (عبدالناصر) عن قرب عام 1965 لأول مرّة في ميدان عابدين، وكنت أجلس مع الجمهور في الصف الثالث، عندما اصطحب عبدالناصر معه إلى المنصة – الرئيس التونسي (بورقيبة)، القادم من فلسطين.
– بتأثير(اليسار المصري)، لم أكن أحب عبدالناصر آنذاك، لكنني عشقته بعد رحيله عام (1970). حين رأينا البدائل المخزية.
تعرفت لاحقاً عام (1980) حين كنت أعيش في العاصمة البلغارية (صوفيا) على (خالد جمال عبدالناصر). عرفني به شاعر فلسطين الكبير عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى) في بهو فندق (اليابونسكي) عندما جاء أبو سلمى إلى صوفيا، لتوقيع بروتوكول التعاون بين اتحاد كتاب فلسطين، واتحاد الكتاب البلغار، الذي كنا قد أنجزناه قبل مجيئه. تحدثنا مع خالد ساعتين من الزمن. وأشفقت عليه حين علمت أنه يشتغل في تجارة بسيطة بين صوفيا والقاهرة، ليتعيش منها. كما التقيت في (الكويت، 2001) – هدى جمال عبدالناصر، عرّفني بها الدكتور عزالدين إسماعيل. وبقيت أتردد على مصر بين الحين والآخرمنذ (2003)، فهي جزء هام من تاريخي الشخصي والشعري.
[(أين المثقفون العرب، (وخصوصاً: الشعراء) في الوطن العربي من الانقسام الحاد بين التيارات الفكرية المتصارعة. هل أصبحوا جزءاً من المشهد السياسي المتأزم؟)]
[**(المناصرة):*] أعتقد أن المثقفين العرب الكبار يعيشون في (غيبوبة) أو في حالة (كوما)، مثل بطلة رواية (باولا) لإيزابيل إييندي. لأنهم طبّلوا وزمّروا للحكام العرب المُستبدين. المفارقة أنهم كانوا يصفون وصفاً بارداً حداثياً، هؤلاء الحكام، فكانت ظاهرة الجمع بين (التخلف والدكتاتورية والحداثة!!)، والجمع بين (المقاومة والتأسرل). وهناك منهم من وصف السلطات المتخلفة، المالكة لمليارات الدولارات بأسوأ الأوصاف، ثم انقلب إلى منافق متملق للسلطة، حرصاً على الجوائز الخيالية، التي توحي بالمبالغة في صرف الأموال، فاشترت معظمهم بثمن بخس، أو بثمن مرتفع السعر، رغم أنهم جميعاً يعرفون أنها (رشوات) لإسكات الأصوات. وهناك من رجع إلى (نظامه العربي)، معلناً التوبة عن المعارضة. فالوضع مزري.
– لقد رأينا، (الليبرالي المتأمرك، يلتقي مع المثقف الداعشي)، ورأينا (المثقف التقني)، يطالب بسحق(الهُويّات)، ويقابله (المثقف الحاراتي)، يطالب بحصته من كعكة التخلف الفاسدة. وهكذا انقسم المثقفون إلى نوعين متناقضين، (الانغلاق، والاندلاق)، والمابين بين، المحتار الوسطي، الذي لا يريد أن يخسر أحداً. أمّا الفساد الثقافي، والفساد في الجامعات، فهو الأساس، وليس الاستثناء. بلطجية رأس المال اغتصبوا (التعليم والدواء). حتى أصبحت الجامعات الخاصة والحكومية، (مدارس ابتدائية عُليا)، و(مقرات للأجهزة الأمنية). رؤساء الجامعات ونوّابهم مصابون بالزوهايمر. لصوص أكاديميون برتبة (بروفيسور) يشرفون على عملية التعليم العالي (الماجستير والدكتوراه)، وعمداء كليات (بوضع اليد). شباب من حاملي الدكتوراه، يعملون كجواسيس للرئيس ونائبه. مؤتمرات التبادل، و(التفاعل!!) الرخيص. أكاديميون يسافرون مع سكرتيراتهم لأغراض (علمية عميقة)!!.
– ليت الصراع بينهم يرتبط بجدل علمي. لكن المثقفين على دين حارس بيت المال. مع هذا كله، لا بد من المقاومة من أجل التغيير.
[(هل ترك ما يُسمّى بـ(الربيع العربي) أثره على الثقافة العربية اليوم، في ضوء ما تشهده بلادنا من أحداث. وأين وصلت (تقبل الآخر) في الأدب العربي. هل قصّر الأدب في إرساء قيم (التسامح والمحبة) بين أبناء الوطن الواحد؟)]
[**(المناصرة):*] حدثت انشقاقات وارتباكات في أوساط المثقفين العرب: البعض انتقد الاستبداد، لكنه تجاهل الاستبداد الأجنبي، والبعض انتقد الاستقواء بالأجنبي، وتجاهل استبداد الأنظمة العربية. تزايد حجم الجوائز الثقافية: (الأجنبي يخطط، والخليج يدفع المال الذي أفسد الحياة الثقافية والسياسية). أنظمة عربية تريد الخلاص من قضية فلسطين، فلجأت إلى (التطبيع) سراً وعلناً بوقاحة منقطعة النظير مع (دولة الاحتلال الإسرائيلي). أما (النظام الفلسطيني في فلسطين) فهو يرى أن (الانقسام) أكثر فائدة من الوحدة الوطنية. المهم بالنسبة لهذا النظام أن يبقى في (السلطة)، وهو يغتصب (التمثيل)، لكي يبقى تحت الأضواء الإعلامية. وقد ارتكب جريمة تحويل الشعب الفلسطيني الكريم إلى (ظاهرة التسوّل، والأنجزة)، و(التنسيق الأمني مع العدو) ضد أبنائه. ودخل المثقفون العرب إلى سوق تجارة (المذهبية: سنّي، وشيعي)، فأصبحت (إيران) عندهم هي العدو، بدلاً من (إسرائيل). وظهر تيار عربي (متصهين)، تشجعه (السلطة الفلسطينية البائسة)، هدفها الحصول على منح (الشرعية!!)، لأسوأ اتفاق في العصر الحديث، أعني (اتفاقات أوسلو)، وتبرير التطبيع. هذا الاتفاق الذي يشبه نكبة 1967.
– أؤمن بـ(التعددية النوعية الثقافية)، لكنهم يفرغون مفهوم التعددية من مضمونه الحقيقي. ما زالت (الأجهزة الأمنية) في العالم العربي (تعيّن أساتذة الجامعات) وتُوجههم نحو التطبيع. أتذكر أنه في السبعينات كتبت مقالاً في بيروت بعنوان (دمنا ليس نفطاً)، نشرته (مجلة الحرية) الفلسطينية على غلافها الأخير. كانت ردّة الفعل على هذا المقال من طرف (الفدائيين)، أنهم ملأوا حيطان بيروت بجملة (دمنا ليس نفطاً). أما الطرف الآخر أي (السلطة الثورية آنذاك)، فقد خطب الراحل (ياسر عرفات) في قاعة جمال عبدالناصر في بيروت، ضدّ هذا الشعار، دون أن يُسمّيني، (هؤلاء يريدون تخريب علاقاتنا العربية!!). وعندما استلمت موقع (سكرتارية التحرير) في مجلة (شؤون فلسطينية)، قبل حصار بيروت بقليل، اكتشفت أن ما يقرب من (25 مثقفاً عربياً سياسياً وغير سياسي) – (يتقاضون رواتب سرّية) دون أن يقدموا أي عمل للثورة. وظل الأمر سراً بيني وبين نفسي. ثم أحرقت هذه الوثيقة قبل دخول الجيش الإسرائيلي إلى مركز الأبحاث عام 1982.
– أهم إنجاز ساهم فيه المثقفون الفلسطينيون هو (الدفاع عن الهوية الفلسطينية)، منذ منتصف الستينات. بطبيعة الحال، هناك مثقفون فلسطينيون التصقوا بأنظمتهم العربية. وتنكروا لهويتهم الفلسطينية، بل إن بعضهم (يكره فلسطينيته). وبالمقابل، هناك من دافع عن الهوية بطريقة (غرائزية) سيئة. عندما نقول بالتعددية النوعية، الفاعلة، فنحن نعني تلقائياً (التسامح)، و(تقبل الآخر العربي)، والانفتاح على العالم الأجنبي بعيداً عن سلوك (الانغلاق – أو الاندلاق): فنحن نؤمن أن الغرب الأوروأمريكي، (متعدد بطبيعته)، فلنتحاور مع التيارات الديمقراطية في أوروبا وأمريكا. لكن يفترض أن يكون مفهوماً أن (إدوارد سعيد هو نسخة لا تتكرر)، حتى نسخة أدوارد سعيد يمكن نقدها بموضوعية، فالرجل أعلن أنه (ضدّ الكفاح المسلح)، وهو مارس التطبيع مع موسيقي إسرائيلي. ومحمود درويش كان عضواً في (جماعة إيلان هاليفي) في باريس، وعندما عُيّن عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام (1987)، اقترح على محمود عباس تشكيل (لجنة الحوار الفلسطيني – الإسرائيلي)، وكانت شبه سرّية، ومؤخراً (2018) أعلن محمود عباس لأول مرّة عن أسماء أعضاء اللجنة في التلفزيون الفلسطيني، ولكن في ظل هذه اللجنة، اغتيل الفنان العظيم العالمي الفلسطيني (ناجي العلي – تموز 1987)، وفُصل (عزالدين المناصرة) من عمله كأستاذ للأدب المقارن في (جامعة قسنطينة) – تموز 1987، بتحريض من (الأفغان الجزائريين)، وقرر رئيس الجمهورية (الشاذلي بن جديد) – طرد المناصرة من الجزائر كلها، لولا تدخل ومعارضة (عبدالحميد إبراهيمي) – رئيس الوزراء، و(الشريف مساعدية) الأمين العام لحزب جبهة التحرير. والتهمة عبّر عنها (الشيخ السلفي محمد الغزالي)، حين ألقى محاضرة في مؤتمر دولي في (مدينة باتنة) قال فيه: إنه (يساري كنعاني وثني!!) وحرفياً... (وديمقراطي!!)، يخرب عقول أبنائكم في الجامعة. وتمت تسوية هي النقل التعسفي إلى (جامعة تلمسان).
– أما (الأردن الرسمي)، فقد أبعدني بتاريخ (10/12/1982)، عندما كنت قادماً من حصار بيروت، والتهمة كما أشيع تتعلق بديواني (قمر جرش كان حزيناً). أما أنا فلم أسرد روايتي حتى اليوم، وفي صيف عام (1991)، أعيدت لي (الجنسية الأردنية).
دائماً، هناك مثقفون عرب شرفاء، وهناك بطبيعة الحال (مثقفون أنذال كذابون).
[(كيف هو تصور الحلول الديموغرافية للمشكلة الفلسطينية؟)]
[**(المناصرة):*] الشعب الفلسطيني قادر دائماً على التجديد في آليات المقاومة، فالمقاومة لا تتم بالسلاح فقط، وإنما بأشكال أخرى من المقاومة المسلحة، والمقاومة الشعبية. تتخوف إسرائيل مثلاً من الحل الديموغرافي التلقائي، حيث يتفوق الفلسطينيون في الزيادة السكانية، وهذا ما أسميه (الحل التحتاني). لهذا تلجأ إسرائيل، إلى الإبعاد والنفي، وتتخذ من (الإبادة التدريجية الدموية) المنهجية، كما فعلت (إسرائيل) لمنع تنفيذ (حق العودة) – بالإبادة التدريجية للمخيمات في المنافي، (مخيم النبطية، مخيم تل الزعتر، مخيم صبرا وشاتيلا، مخيم نهر البارد، وغيرها)، وأكمل (الداعشيون) المهمة في (مخيم اليرموك). لكن (أهل غزة البطلة)، ابتدعوا طريقة جديدة لم تحدث في العالم كله قبل ذلك، وهي (تهريب النطفة من السجن الإسرائيلي)، منذ عام (2012) – كان نتاجها الأول: (الطفل أسعد فهمي أبو صلاح)، وتوالت عمليات التهريب، وما تزال بصعوبة بالغة، لأن الشعب الفلسطيني يعشق الحياة. واخترع الفلسطينيون طرقاً شعبية أخرى للمقاومة، مثل (الكاوتشوك)، و(الطائرات الورقية السلمية).
وظهر (الأطفال) كأبطال حقيقيين قبل أن يتحولوا إلى شهداء أو أسرى (محمد الدرّة – الدوابشة – أبو خضير – أحمد المناصرة – محمد أيوب – عهد التميمي) وغيرهم. هناك مئات الأطفال في السجون، وخضعوا لتحقيقات أمنية وحشية. ولا بأس أن نذكر (الشهيد إبراهيم أبو ثريا) – المبتور الرجلين، الذي تسلق عمود الكهرباء ليرفع العلم الفلسطيني أمام جنود الاحتلال، فأطلقوا عليه النار.
– الشعب الفلسطيني يقاوم منذ عام (1856م)، أي منذ أول مستوطنة زُرعت في القدس (موشيه مونتفيوري). أما عبر التاريخ فقد قاوم كل الاحتلالات المتوالية، قبل الميلاد، وبعد الميلاد. وهناك (دولتان) فلسطينيتان قامتا على التراب الفلسطيني: إحداهما (دولة الحرادسة)، 37 ق.م. – 100 بعد الميلاد، التي أسسها (حَرَدْ الأدومي العسقلاني الفسلطيني)، وأولاده، المسمى (هيرودوس الكبير). وقد شملت فلسطين كلها حتى جنوب دمشق، وبيروت. وفي القرن الثامن عشر تأسست (دولة الزيادنة الفلسطينية)، وعاصمتها (عكا)، وكانت حدودها تشمل فلسطين كاملة، حتى بيروت، بقيادة (ظاهر العمر الزيداني)، امتد عمرها (80 سنة).
[(وماذا عن (المقاومة الثقافية)؟)]
[**(المناصرة):*] المقاومة الثقافية في العصر الحديث، بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
أول رواية فلسطينية ظهرت عام (1887)، هي رواية (محمد أحمد التميمي)، المولود في الخليل، وكان والده الشيخ أحمد التميمي، يشغل موقع (مفتي الديار المصرية) في عهد محمد علي، ذكرتها مراجع كثيرة لكنها مفقودة.
روحي الخالدي من القدس، هو أول من أصدر كتاباً في مجال الأدب المقارن، عام 1904. طبع حديثاً منه عدة طبعات، وعنوانه: (تاريخ علم الأدب العربي عند الإفرنج والعرب، وفكتور هوغو).
علم اللسانيات (1932) للأب مرمرجي الدومينيكي من القدس.
رواية (الوارث)، لخليل بيدس، 1920.
أول فيلم سينمائي عربي صامت، مثلته المصرية عزيزة أمير عام 1927، أنتجه وأخرجه الفلسطينيان من بيت لحم (إبراهيم وبدر الأعمى)، وتعرّفت عام 1997 في باريس على الموسيقي الفلسطيني (باتريك لاما)، وهو من العائلة التلحمية (الأعمى) أيضاً.
(سينما الثورة) تأسست منذ عام (1969): (هاني جوهرية – مصطفى أبو علي – سُلافة مرسال).
النقد الثقافي المقارن: عزالدين المناصرة (المثاقفة والنقد المقارن، 1988) – إدوارد سعيد (الثقافة والامبريالية، 1992).
فن التصوير الفوتوغرافي – خليل رعد، 1887.
الفن التشكيلي: جمال بدران (مزخرف المسجد الأقصى) – محمد وفا الدجاني – مبارك سعد – نقولا الصايغ – زُلفى السعدي – محمد صيام – إسماعيل شموط – تمام الأكحل- مصطفى الحلاج – ناجي العلي (رائد فن الكاريكاتير). وقد أحصيت في كتابي (موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني) ما يقرب من (700 فنان) عاشوا متناثرين في العالم.
الفكر: صدر عام (1928) كتاب المفكر الفلسطيني (بندلي الجوزي)، بعنوان (الحركات الفكرية في الإسلام)، وله كتب أخرى.
شهداء الحركة الثقافية: عبدالرحيم محمود – كمال ناصر – هاني جوهرية – ناجي العلي – عبدالحافظ الأسمر – مطيع إبراهيم- فيصل الطاهر – خليل بدوية – عبدالعزيز إبراهيم – وائل زعيتر – نعيم خضر – ماجد أبو شرار)، وغيرهم.
الرواية الحديثة: غسّان كنفاني – جبرا إبراهيم جبرا – إميل حبيبي.
الشعر: (إبراهيم طوقان – عبدالرحيم محمود – أبو سلمى) – أما (الشعر الفلسطيني الحديث)، فقد اتفق عدد من النقاد على أن العلامات الرئيسية، هم:
(شعر المقاومة) الملتبس: (محمود درويش – سميح القاسم – توفيق زيّاد- راشد حسين) – وشعارهم (دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل).
(شعراء الثورة في المنفى): (عزالدين المناصرة – معين بسيسو – أحمد دحبور – مريد البرغوثي) – تبنوا (فلسفة التحرر الوطني، والكفاح المسلح) في ظل منظمة التحرير الفلسطينية.
– ويمكن أن نلاحظ أن (إدوارد سعيد)، قد مارس (التطبيع)، ووقف (ضدّ الكفاح المسلح) كما قال ذلك حرفياً في كتابه (تأملات حول المنفى)، كذلك مارس (التطبيع) مع إسرائيل (محمود درويش) عضو (لجنة الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني، منذ 1987).
لهذا، فإن بعض المثقفين العرب يُعاتبنا دائماً، بالقول: المثقفون الفلسطينيون يغفرون لدرويش وسعيد، ويتهمون المثقفين العرب بالخيانة. لهذا قلت: (لا غطاء لأحد) حين يمارس التطبيع، مهما بلغت أهميته كشاعر أو كمفكر أو كناقد.
[(يوصف (عزالدين المناصرة) بأنه (مثقف مستقل حقيقي حر) في منظمة التحرير الفلسطينية. ماذا عن علاقتك بالفصائل الفلسطينية. وكيف ينظر قادة الفصائل إلى (الشعر)؟)]
[**(المناصرة):*] بدأت نضالاتي الوطنية منذ عام 1964 – عضواً في الاتحاد العام لطلبة فلسطين – فرع القاهرة، الذي تخرّجَت منه أسماء قيادية لاحقاً، أي أنني كنت في منظمة التحرير (اتحاد كتاب فلسطين) منذ (1966) في مؤتمر (غزة) التأسيسي. رشحني آنذاك (أبو سلمى، وغسان كنفاني)، لعضوية المؤتمر، فقبلت عضواً (دون حضوري)، ذلك أن إدارة الحاكم في القاهرة رفضت منحي تأشيرة دخول. وتلقيت (دورة عسكرية) في القاهرة، بإشراف ضباط مصريين. هذا يعني أنني في عهد (أحمد الشقيري)، ساهمت في النقابات (الطلاب والكتاب)، وشاركتُ في مؤتمر اتحاد كتاب فلسطين الثاني في القاهرة، 1969.
– انطلقت (حركة فتح) في (1/1/1965)، حيث طبعتُ (بيان العاصفة العسكري رقم (1)) – بمئات النسخ، ووزعته في جامعة القاهرة، فاستدعيتُ للتحقيق من قبل أجهزة الأمن المصرية. وكنت بريئاً فقد استغربت أن يحدث معي ذلك. وفي عام (1966)، كنت مرشحاً مستقلاً لعضوية الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في (قائمة حركة القوميين العرب). وفي عام 1968، كنت من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أصدرت (تقرير شباط)، قرأته عدة مرات، وأعجبني تحليله للوضع الراهن آنذاك. وفي هذا العام، أصبحت (مراسل مجلة الهدف في القاهرة) قبل أن يصدر منها أي عدد، لأن غسان كنفاني زار القاهرة، ولأنه كان يراسلني منذ أن كان رئيساً لتحرير (مجلة فلسطين – ملحق المحرر) في بيروت، طلب مني أن أكون مراسلاً لمجلة ستصدر اسمها (الهدف).
– منذ معركة الكرامة، 1968/ أصبحت عمّان هي مركز الثورة، وتلاشى تدريجياً دور القاهرة. تعرفت عن قرب على حركة فتح عبر (ماجد أبو شرار) في عمّان، وشرح لي (نظرية البؤر الثورية).
– في بيروت، 1976-1977، عملت في الإعلام الموحد التابع لمنظمة التحرير نظرياً وقانونياً، لكنه فعلياً كانت حركة فتح تديره. وعملت (محرراً ثقافياً في مجلة فلسطين الثورة)، الناطقة بلسان منظمة التحرير.
– في (صوفيا)، العاصمة البلغارية، كنت (رئيس المؤتمر التأسيسي لحركة فتح في بلغاريا)، ومع هذا، لم أكن عضواً في حركة فتح، بمعنى لم أحضر اجتماعاً تنظيمياً واحداً لا في بيروت ولا في صوفيا. الحكاية أنهم كانوا منقسمين (جماعة الشام، وجماعة الأردن)، فاختلفوا، وأرسل ياسر عرفات لجنة من دمشق وبيروت للإشراف على الانتخابات. زارتني اللجنة، وطلبت مني أن أترأس المؤتمر. السبب هو، أنني كنت ذا خبرة نضالية سابقة في القاهرة وبيروت. لهذا، ومن أجل حل المشكلة، وافقت، وانتهى المؤتمر عصراً بنجاح باهر. ادّعى (سفير المنظمة في صوفيا)، أنه عضو في المؤتمر. هنا سألت (أعضاء لجنة التنظيم) داخل المؤتمر منذ البداية عنه، فأجابوا أمام الجميع، بأنه ليس عضواً، فهو من جيش التحرير. وهناك فرق. سمع السفير الجواب من اللجنة، وخرج غاضباً. وادّعى لاحقاً أنني طردته من المؤتمر. مساء ذلك اليوم نفسه (3 ديسمبر 1977) – جرت محاولة اغتيالي بطريقة نذلة أي بالخداع. ونزفت دماً كثيراً، كان السفير وحراسه الثلاثة هم من اعتدى علي. اجتمع (18 حزباً عربياً وتنظيماً فلسطينياً) في مقدمتهم حركة فتح، وأصدروا بياناً قوياً، طالبوا فيه ياسر عرفات بطرد السفير من صوفيا. وأرسل عرفات (مسؤول الإعلام الخارجي) محمود اللبدي، وكان صديقي في بيروت، يطلب مني أن أتراجع عن طلبي طرد السفير، فرفضت. وهكذا اضطر عرفات أن يوافق.
– في (الجزائر)، انتخبتُ من قبل أبناء الجالية الفلسطينية (عشرة آلاف نسمة) – رئيساً لـ(لجان الوحدة الوطنية الفلسطينية) عام 1985-1987. وكانت مشكلة الانقسام في داخل فتح بعد خروجهم من حصار بيروت، فاتخذت موقفاً عادلاً، هدفه الوحدة الوطنية. وكانت هذه اللجان هي صاحبة (مبادرة توحيد اتحاد الكتاب والصحافيين) عام 1987، بعد اجتماعين في الجزائر، وفي العاصمة التشيكية (براغ)، دعيتُ كمستقل إلى الاجتماعين، وذهبت إلى (براغ) على حسابي الشخصي. وفي النهاية انعقد المؤتمر التوحيدي، وكنت فيه (رئيس لجنة الحريات)، وحين رشحتني (الجبهة الشعبية، والديموقراطية، وحتى حركة فتح في الجزائر) لموقع نائب الأمين العام، رفضت حركة فتح، وقال (صخر حبش) عضو اللجنة المركزية، بأنني (عضو في حركة فتح، لكن الحركة لا ترشحه).
– كل هذه الأحداث، وأنا لم أحضر في حياتي في كل المحطات (القاهرة – عمّان – بيروت – صوفيا – الجزائر)، لم أحضر اجتماعاً تنظيمياً واحداً لحركة فتح، ولا حضرت أو شاركت في أي اجتماع تنظيمي لا في حركة القوميين العرب، ولا في الجبهة الشعبية، ولا في الجبهة الديموقراطية، حيث تحالفت معهما حول الوحدة الوطنية. طيلة تجربتي الشعرية بقيت (مثقفاً مستقلاً حراً)، ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية. تحالفت أحياناً مع حركة فتح حول (تعميق الهوية الفلسطينية)، وتحالفت مع الحزب الشيوعي الفلسطيني في زمن آخر حول مسألة (الصراع الطبقي)، و(الروح الأممية الثورية)، وكنت أحاول جذبهم إلى (الفلسطنة الثورية، والكفاح المسلح). أطلق عليَّ عرفات في زمن ما لقب (المتطهر الثوري)، لأنني كنت أعطي الثورة ولا آخذ منها: لم أكن عضواً في أي مؤتمر من مؤتمرات اتحاد الكتاب، باستثناء (المؤتمر التوحيدي). ولم أكن عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، ولم أحضر أي مؤتمر، باستثناء مؤتمر الجزائر (1983)، حيث دُعيت كعضو مراقب فقط من أجل المشاركة في صباحية شعرية في المجلس الوطني، وكانت الدعوة بتوقيع ياسر عرفات، لكنني مُنعت من إنشاد (قصيدة حصار قرطاج) أمام المجلس الوطني، بينما سُمح لمحمود درويش ومعين بسيسو، إنشاد قصائدهما، لأن أحد مستشاري عرفات أبلغه أن القصيدة تنتقد دور القيادة الفلسطينية في حصار بيروت!!.
– باختصار، أن تكون (مثقفاً حراً مستقلاً حقيقياً) – كان ممنوعاً في الثورة الفلسطينية. أما اليوم، فأنا أشعر براحة نفسية، لأنني كنت (متطهراً)!! و(زاهداً)... أعطيت، ولم آخذ, علّمتُ أولادي في الجامعات على حسابي الشخصي، ودافعتُ عن الفقراء، ووقفتُ ضدّ الفساد والفاسدين، وضد المتأسرلين!!.
[(ما هي أجمل قصيدة يمكن أن ترى نفسك فيها؟)]
[**(المناصرة):*] أشير إلى قصائد مثل: (جفرا أمّي إنْ غابت أمي) – (يا عنب الخليل) – (يتوهج كنعان) – (حصار قرطاج) – (بالأخضر كفناه) – (لا أثق بطائر الوقواق) – (البنات، البنات، البنات) – (أضاعوني) – (مذكرات البحر الميت) – (حيزية: عاشقة من رذاذ الواحات) – (شكوى أمام دالية الأرجوان).... وغيرها.
– هذه القصائد مشهورة، لدى مئات الآلاف من العرب، لكن ليس بالضرورة أن تكون هي الأفضل. في الستينات كان درويش زميلي وصديق العمر يردد قصيدته الشعارية (سجّل أنا عربي)، وقصائد أخرى من النمط نفسه، أما أنا فقد كنت أحفر في قاع الحضارة الكنعانية الفلسطينية (الشعر الحضاري) الرمزي، لكي أصوغ خطاً آخر من خطوط شعر المقاومة. هذه القصائد، بعضها كتب قبل نصف قرن، قرأتها مؤخراً في ندوات،أمام الجيل الجديد، ولم يلاحظوا قدمها، لأنها من (الشعر الباقي) الذي لا يتأثر بعوامل التعرية والتقلبات الزمنية، ولأن الأحداث تم امتصاصها وتحويلها إلى نوع من أنواع (الشعر الصافي). قصائدي باقية لأنها تعاركت مع الحياة المتقلبة، بينما هناك قصائد عند (التيار الصوفي) المصنوع، التي تدّعي (البقاء)، لكنها مثل (البلاستيك الشفّاف) لا طعم ولا رائحة لها، ولا تصل إلى الجمهور، باستثناء شريحة مخدّرة.
نحن (جيل الهوية)، الذي أوصل (الحداثة الشعرية) العربية منذ عام (1967) – إلى الشارع العريض، حيث لم يستطع (روّاد الشعر الحديث) في الخمسينات، أن يحققوا ذلك، فقد ظلوا نخبوين محصورين في شريحة محددة من الجمهور. المطلوب هو خلق التوازن بين الجمال، والحدث.
[(هل وصل (الشعر الفلسطيني الحديث) إلى العالمية. وما مفهوم العالمية عندك؟)]
(المناصرة): أنا شاعر عصامي، لم أحصل على شهرتي عن طريق (الثورة الفلسطينية المعاصرة (1964-1994))، التي شاركت فيها بفاعلية متميزة. والدليل القاطع أنه لم يصدر كتاب واحد عن شاعريتي في الفترة (1968-1999)، في ظل الثورة، على العكس من ذلك، لقد تم تعتيم مقصود على تجربتي مصدره سياسي، فأنا (مثقف مستقل حُر) في إطار منظمة التحرير، وكنت معارضاً داخل هذا الإطار. ومنذ (1994) لا علاقة (وظيفية) لي بمنظمة التحرير.
– ذات مرة، قلت: (أنا شاعر عالمي حتى قبل أن يترجم لي سطر واحد)، لأن العالمية بدأت من (يا عنب الخليل، 1968)، وليس من تقليد (الشعر المترجم إلى العربية). وعندما كنت (رائد شعر التوقيعة) منذ (1964)، لم أبدأ من تقليد (الإبيجرام اليوناني) أو (الهايكو الياباني)، رغم أنني كنت أول من قدَّم (هايكو عربي) في العام نفسه. بل بدأتُ من (فن التوقيعات النثرية العباسية)، وبدأت من (قصيدة المقطعات الجاهلية). آنذاك، كان كثيرون يكتبون بأنني غارق في (المحلية)، لكن جوابي كان (من قال إن المحلية ضد العالمية!!). وقد اعترف النقاد بهذه العالمية. لقد تُرجمت قصائدي إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية، وصدرت سبع مختارات شعرية مُترجمة إلى (الإنجليزية والفرنسية والفارسية والهولاندية). وكتبت عشرات الدراسات عن شعري باللغة الفارسية، من بينها رسائل ماجستير (عدد 2).
– لقد تأثرت في الستينات بـ(ت. س. إليوت)، ووقعت في غرام اليوناني المصري (كفافيس)، والفرنسي (جاك بريفير)، وسان جون بيرس، وتأثرت وأعجبت بشعر اليوناني (يانيس ريتسوس): كانت قصائد (ريتسوس) تصلني طازجة بخط يده من أثينا إلى (صوفيا)، حيث كان شاعر يوناني شاب اسمه (بانايوتس)، يدرس الصحافة – يترجمها لنا من اليونانية إلى البلغارية. وتعرفت إلى عدد كبير من شعراء العالم، أثناء المهرجانات الدولية. حاورت (ألن غينسبرغ) الأمريكي، و(ميشيل دوغيه) الفرنسي، و(فاسكو بوبا) اليوغسلافي، و(ملادين إيسايف) البلغاري. وأحمل درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من (جامعة صوفيا، 1981)، الجامعة التي تخرج فيها الناقدان العالميان (تودوروف)، و(جوليا كريستيفا)، قبل هجرتهما إلى باريس. لكن أهم شاعر عالمي أحببت شعره، هو الشاعر الإسباني (فيديريكو غارثيا لوركا).
– العالمية، أن تكون منفتحاً على العالم دون (اندلاق أو انغلاق). مصادري الثقافية: (الثقافة الأنجلوأميركية) – و(الثقافة السلافية) – و(الثقافة الديموقراطية الفرنسية) – و(التراث العربي: قديمه وحديثه)، فقد تخرجت في أقدم كلية جامعية في الوطن العربي (كلية دار العلوم، 1871م)، التي ألحقت عام 1946 بـ(جامعة القاهرة)، وهي تجمع بين التراث والحداثة. كما أنني أنطلق دائماً في تفاعلي مع هذه الثقافات من (عقل نقدي)، بلا تقديس، ولا تبخيس. وهناك فارق هائل بين (العالمية)، و(العولمة) الإجبارية. كل شعوب الأرض لا تتخلى عن هويتها.
[(هل أثّرت التقنيات الحديثة (فيس بوك وأخواتها) على تطور الإبداع، أم أنه أدّى إلى تراجعه، لانشغال المبدعين بالتواصل في وسائط التواصل الاجتماعي؟)]
[**(المناصرة):*] أقول جازماً أن (العقل البشري) هو من يصنع عبقرية الفكرة الشاعرية، قبل أن تمسّ النص، أية آلة ذكية. سكرتيرة ماهرة وذكية تستخدم تكنولوجيا الإنترنتـ بأفضل من استخدام أي أستاذ جامعة، لكن السكرتيرة، لا تستطيع فهم ما وراء النص، وفلسفة التكنولوجيا، ونستثني المتميزات المثقفات.
– نعم أثّر (الأخ غوغل، والفيس بوك) على تطوّر الإبداع الثقافي، ولكن التأثير كان شكلانياً بعيداً عن العمق. بالنسبة لي، هناك صفحة باسم (الشاعر عزالدين المناصرة)، لكني لا أمتلك مفتاحها. تركت ابني، الخبير التكنولوجي، يعبث بها كما يشاء، لأنه يعتقد أنني لا أفهم (الجيل الشاب)، والصحيح أنني مارست مهنة التدريس في خمس جامعات طيلة (35 سنة)، بمعنى أنني طيلة هذه السنوات، أتحاور (يومياً) مع طلبة وطالبات، وبالتالي، فأنا أفهم ما يدور في أذهانهم: في أحد الأيام، ركض نحوي (طالب من طلابي) فرحاً، وقال لي: (رأيتك في مقابلة تلفزيونية معك لمدة ساعة). سألته: كيف كانت المقابلة. جاملني نفاقاً وتملقاً بأنها كانت ممتازة. لكني واصلت الأسئلة: ما هي الأفكار التي أعجبتك، وما هي الأفكار التي لم تعجبك. قال لي: (المذيعة التي حاورتك كانت ساحرة الجمال، فركزت انتباهي عليها، ولم أنتبه للحوار نفسه. المرّة القادمة سأنتبه إذا كانت المذيعة قبيحة!!).
– كنا في الماضي ننشد الشعر أمام ألف أو خمسمئة من المستمعين، بل وصل الأمر معي إلى (قراءة شعرية على حيطان ملعب في (مدينة الزرقاء) الأردنية)، عام 1970، كان عدد الجمهور حوالي عشرة آلاف. وفي مدينة (المفرق) الصحراوية قرب الحدود مع سوريا، قرأت الشعر أمام (خمسة آلاف)، وكانت أول أمسية في تاريخ هذه المدينة. وقرأت الشعر (وحدي) في تونس الثمانينات، والجزائر أمام آلاف من البشر. أما بعد أن اكتشفت الأنظمة العربية، سياسة (جوّع كلبك يتبعك) منذ أول التسعينات، فقد اكتشفت طريقة جديدة في السيطرة على الجمهور، من بينها الترخيص المفرط للجمعيات الثقافية، ودفع مساعدات مالية لها، وهذه الجمعيات تقول حتى لنزار قباني: (هات جمهورك معك وتعال!!). فما بالك في شاعر عظيم لا يمتلك مثل هذا الجمهور. حالياً معظم جمهور الجمعيات الثقافية، لا يزيد عن سبعين شخصاً. أما (الفيس بوك)، وهم شعراء شباب يكسرون الوزن، ويكتبون قصيدة النثر، ويستخدمون مقاطع شعرية في (الفيس بوك) تميل إلى السطحية، فهي مثل (فقاقيع الصابون الملوّن) تثير متعة لحظية وتطير في الهواء. جمهور المرحوم محمود درويش، تتولى جمعه الأنظمة وأحزابها والسفارات، فهو جمهور صناعي، مثله مثل جمهور (جماعة الفيس بوك: كثير لكنه قليل البركة!!).
– ذات مرّة أحيا محمود درويش أمسية شعرية في (قصر الثقافة) بعمّان، فكتبوا بأن الحضور هو نفس جمهور (فرقة الحنونة) الشعبية. جمهور تحركه السفارة الفلسطينية، ووزارة الثقافة الأردنية. ولكن عندما قرأت الصحف الأردنية، قالت (العدد كان حوالي 1500)، أما في بيروت فقد قالوا (أربعة آلاف). أما جريدة في لندن، فكان رقمها حوالي (8 آلاف). الرقم القريب من الصحة هو الرقم الأردني، لأن الصحف تعرف عدد المقاعد في (قصر الثقافة).
– وذات مرّة، أصرّ عليَّ (الموسيقار الفلسطيني غاوي ميشيل غاوي) وكان عميداً لكلية الفنون في (جامعة النجاح)، في نابلس – أصرّ أن أكون (مدير الحفل) في (قصر الثقافة)، بحضور ملكة الأردن، وعدد من وزراء السلطة الفلسطينية. كان حفلاً ناجحاً بكل المقاييس. ولأن الموسيقار كان زميل دراسة في (صوفيا)، فقد دعوته إلى بيتي. وكان سعيداً بنجاح الحفل. سألني: كم هو عدد الجمهور. قلت له: حوالي (1700 شخص)... وهو رقم محترم. قال لي: هم (خمسة آلاف)، فقلت له: رقمي هو الصحيح، لأنني سألت (حارس القصر)، وهو رجل بسيط، لا يلتفت إلى ألاعيب المثقفين.
– جيل (الفيس بوك) يعتبر (أحلام مستغانمي)، الروائية الجزائرية، أهم من (نجيب محفوظ)!. ورغم أن طالباتي في الجامعة قلن لي: (يُشاع أن شخصية (زياد) في رواية (ذاكرة الجسد)، هو أنت، لأنك عشت في مدينة قسنطينة أربعة أعوام، وكانت لك ميول إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيروت والقاهرة). قلت لهم: أعرف أحلام مستغانمي منذ عام 1975، وأعرف زوجها، ولي صداقة شخصية معهما، لكنني لا أوافق على المقارنة مع نجيب محفوظ.
(مبدأ التجاور)... هو الأهم:
– ما نُسمّيه (مبدأ التجاور) – و(مبدأ التقاطع)، ومبدأ (الهايبر تكست = التشعيبية)، وغيرها – في الإنترنت، كلها مبادئ حيوية ومدهشة تمنح إمكانات رائعة للتواصل بسرعة وبكميات خيالية، قياساً على الزمن التقليدي السابق، لكن ما يبقى هو ما أنتجه العقل البشري، قبل التكنولوجيا. لأن التكنولوجيا أداة توصيل، تساعد على تحسين جماليات الإبداع الشكلية. صحيح إن الكتابة الإلكترونية تزيد من جماليات الكتابة، لكن ما انتجه هذا (النوع الجديد)، ليس مُهماً إلا من حيث الشكل، فنحن نعيش (حضارة الشكل الجميل). ما أنتجته (ما بعد الحداثة)، هو لعب ممتع، لكنه يزول بسرعة. خُذ مثلاً التقنيات الحديثة المبهرة في (الغناء)، نحن نعترف أنها ممتعة أحياناً وجاذبة للجمهور، لكنها تطير بسرعة ولا تترك أثراً سوى (تأثير اللحظة)، وفيها يختلط الصوت الجميل، مع (أغاني الهشتك بشتك). أغاني فيروز، وأم كلثوم، وعبدالوهاب ما تزال باقية حتى اليوم. كذلك أغاني ديميس روسوس، ومريام ماكيبا، شيرلي بيسي، جين باييز، سلين ديون.
أما (الشعر)، فأنا أؤمن، بما قاله (المفكر الفلسطيني عادل سمارة): (جمالية الشعر بدون موقف (وطني / قومي / طبقي)، هي جمالية بيت العنكبوت ليس إلا، بيت يهدمه الندى). وأنا أضيف، لكن بالتزام ضرورة شاعرية الشعر، أي جوهره أولاً. لقد واجهتنا صيف 1982 خلال حصار بيروت، مشكلة التصريح المخزي للشاعر (سعيد عقل)، الذي طالب بإبادة الشعب الفلسطيني، وامتدح (بطولة مناحيم بيغن). هذا طبعاً انحطاط تولد بتأثير (مجموعة حرّاس الأرز اللبنانية) المتأسرلة مع تأثيرات امرأة مهووسة تدعى (مي المر)، وامرأة أخرى (روزماري أميدي). آنذاك أرسلنا إلى سعيد عقل من طالبه بالتراجع عن التصريح لكنه رفض. وحاولت بنفسي حتى في الألفية الجديدة (2002)، فطلبت من الصديق (الدكتور جهاد نعمان)، وهو صديق شخصي لسعيد عقل – أن يستصدر سعيد عقل، تصريحاً جديداً لصالح الفلسطينيين لمحو تصريحه المخزي، لكنه أبى واستكبر، والحادثة موثقة في (جريدتي الحياة واللواء). وأنا أقول: حتى قصيدة البياض، هي تعبير إديولوجي، كذلك (قصيدة النثر).
[(
خلافات الكتاب والمفكرين والشعراء العرب كثيرة، ترى لماذا يختلف الشعراء والأدباء والمفكرون، وعلى ماذا يتصارعون؟)]
[**(المناصرة):*] يختلفون على (المواقع، والجوائز)، و(اقتسام الشهرة)، وهم غارقون في الفساد الثقافي بأشكاله الحداثية والمابعد حداثية. وغارقون في التطبيع علناً وسرّاً. قلت لهم: لا ياسر عرفات، ولا محمود عباس، ولا (إدوارد سعيد، ومحمود درويش)، يستطيع (تغطية مثقّف عربي مطبّع!!): يذهبون إلى (رام الله) تحت ذريعة (مساندة (السلطة المطبّعة) أصلاً بوساطة (التنسيق الأمني الرسمي)، ويروجون للمقولة السخيفة التبريرية (نحن نزور السجين، ولا نزور السجان)!!. ثم يتسللون كاللصوص لزيارة ما يسمى (دولة إسرائيل!!)، التي لم تكن موجودة قبل (15/5/1948) على خارطة العالم. وعندما يرجعون إلى أنظمتهم، يتقاضون (المعلوم). وكان الله في عون (أهلنا في قطاع غزة)، المحاصرين، الذين يتضورون جوعاً. هكذا سيطر (وكلاء الاحتلال): هل يُعقل أن يشارك رئيس وزراء فلسطيني سابق في (المؤتمر الصهيوني في هرتسليا)، ويُلقي خطاباً صهيونياً – فلسطينياً فيه!!.
– إن الخلافات الفكرية بين المثقفين العرب، ليست خلافات إديولوجية، بل خلافات حول تناقض المصالح عند اقتسام الكعكة المسمومة، وعند (اغتصاب التمثيل). (نحن يا صديقي شعبٌ عظيم، بقيادات تافهة)، منذ وعد بلفور، باستثناء (الشهداء، والأسرى، والأبطال).
– مؤخراً، كشف الرئيس محمود عباس (9/4/2018) في التلفزيون الفلسطيني الرسمي، عن الأسماء السرية والعلنية لـ(لجنة الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني)، التي شكلها بنفسه عام (1987)، وهم: (محمود عباس رئيساً – عبدالله حوراني – ياسر عبد ربه – محمود درويش – عبدالرزاق اليحيى – سليمان النجاب)، هذه اللجنة، هي التي فاوضت (الموساد الإسرائيلي) في تموز 1987 في باريس سراً وعلناً. بالنسبة لي، شهر تموز 1987، هو الشهر، الذي أغتيل فيه الفنان العظيم (ناجي العلي)، بنذالة، وفهمكم كفاية!!. والشعراء على دين ملوكهم، ولمن يدفع أكثر.
[(لو كنتَ (وزيراً للثقافة الفلسطينية)، ماذا ستكون خطة عمل وزارتك المقبلة؟)]
[**(المناصرة):*] يبدو أنك لا تعرفني جيّداً – أنا مثقف ومناضل زاهد في مثل هذه السخافات (وزير، عضو لجنة تنفيذية في منظمة التحرير، عضو المجلس الوطني، رئيس لاتحاد كتاب فلسطين)، وغيرها. في عام (1977) في بيروت عرض عليّ (ياسر عرفات) موقع (المستشار الثقافي لياسر عرفات)، فرفضت بلباقة وأدب، واستغرب الجميع!!. باختصار: سؤالك افتراضي. عندما قررت القيادة الدخول بعد اتفاق أوسلو، زرانا هنا في عمان، مثقف أصبح وزيراً للثقافة في فلسطين فيما بعد، وطلب من (أشخاص) في اجتماع أن يقدموا اقتراحاتهم حول كيفية تأسيس الوزراة. قدمنا اقتراحاتنا، وسجلها وعاد إلى تونس حيث قابل عرفات. كان أحد اقتراحاتي أن لا تكون الوزارة على نمط وزارات الثقافة في العالم العربي، لكن الوزارة المذكورة التي تولاها عدة أشخاص، جاءت نسخة حرفية عن الوزارات في العالم العربي: (وزارة ترضيات غير نوعية، وتوازنات مناطقية).
[(ما رأيك في وضعية اتحادات الكتّاب العرب؟)]
[**(المناصرة):*] اليوم، لست عضواً في أي اتحاد قطري (عددها 16). ولست عضواً في اتحاد كتاب فلسطين، لأنه (تحت وصاية الاحتلال). ولست عضواً في (رابطة الكتاب الأردنيين)، رغم أنني مؤسسها عام 1973. ولست بحاجة لأن أكون عضواً. كل ما في الأمر أنني حاولت إصلاح بعض المشاكل، لكنني فشلت في إصلاح ما أفسدوه. (أعيش وحيداً في غابة الذئاب). اتحاد الكتاب العرب منحني (جائزة القدس)، 2011، وسلمني وزير الثقافة المصري، ومحمد سلماوي (رئيس اتحاد الكتاب العرب) – (درعاً)، ولم أتسلم المقابل المادي للجائزة حتى اليوم. كلها اتحادات حكومات، تتصرف وفق هواها الشخصي، لكنها تدّعي تمثيلنا جميعاً دون وجه حق.
[(ما رأيك في (شعر النثر). هل يمكن له أن يتغلب على الشعر الموزون؟)]
[**(المناصرة):*] صدر لي كتاب (إشكالات قصيدة النثر) في طبعته الثالثة (651 صفحة) عن دار الراية بعمّان. وتوصلت إلى حقيقة هي أن لهذا النوع من الكتابة، (45 اسماً). كما توصلت إلى حقيقة أخرى أن الرائد الحقيقي لقصيدة النثر هو (أمين الريحاني) في مجموعته (هُتاف الأودية، 1910). أما كتّابها في (مجلة شعر) اللبنانية التي صدرت 1957، فهم (الدفقة الثالثة) من كتاب قصيدة النثر، لأن قصيدة النثر متنوعة الأشكال. وقد تأثر أمين الريحاني بالشاعر الأمريكي (والت ويتمان)، شاعر ديوان (أوراق العشب). وقد تبين لي أن اللبناني (شوقي أبي شقرا)، هو أول من ترجم واستعمل مصطلح (قصيدة النثر) عام 1959، في (جريدة النهار). أما مجموعة كتاب (مجلة شعر)، فقد وقعوا تحت تأثير كتاب (سوزان برنار) عن قصيدة النثر، وبالغوا في أهمية هذا الكتاب.
– بدأت بنشر قصائدي في (مجلة الآداب البيروتية)، منذ عام (1965)، وهي مجلة ذات ميول تقدمية عروبية في مقابل (مجلة شعر)، و(مجلة حوار)، وفي منتصف الستينات، انفجرت فضيحة (مجلة حوار) التي كان يرأس تحريرها (توفيق صايغ). وهو سوري فلسطيني لبناني، بعد أن أعلنت (مجلة نيوزويك) الأميركية فضيحة التمويل حيث كان تمويل (حوار) من منظمة حرية الثقافة المرتبطة بالمخابرات المركزية الأمريكية. أما (مجلة شعر)، فقد أكد مثقفون آنذاك أن مصدر تمويلها هو (الخارجية الأميركية)، عبر اللبناني شارل مالك وزير خارجية الرئيس كميل شمعون. وفي كل الأحوال، وبسبب الشبهة السياسية، توقفت المجلتان عن الصدور. كانت الستينات هي زمن الصعود القومي، رغم هزيمة 1967. كانت هذه المجلات محدودة الانتشار وقاطعتها معظم الدول العربية، بسبب (الشبهة السياسية التمويلية). وبقيت (مجلة الآداب) هي المسيطرة في العالم العربي. كان يكفي أن تنشر قصيدتك في هذه المجلة، حتى يعرفك معظم مثقفي العالم العربي.
– لقد قدّمت تعريفاً في كتابي (إشكالات قصيدة النثر) بأن قصيدة النثر، هي: (نصٌّ كتابيٌّ، ربما يعتبر جنساً مستقلاً، من نوع (جنس الحافة)، هو نص تهجيني يصل إلى ملامح ما أسمّيه (النص الكشكولي المفتوح)، إذا ما تقاطع مع النص الإلكتروني).
– في عام (1998) صدرت الطبعة الأولى (المصغّرة) من كتابي هذا في (رام الله). ورد فيه أنه من بين الـ(45 اسماً)، التي أحصيتها لقصيدة النثر، هو اسم (كتابة حنثى)، فقامت القيامة ضدي، وكتبت عشرات المقالات ضدي، بل ادّعى أحدهم (ح. س.) مصري أنني أصفه بـ(المخنث)، والحقيقة أنني لم أذكر اسمه مطلقاً أصلاً.
– قال محمود درويش آنذاك (1997) في (جريدة أخبار الأدب) حرفياً ما يلي: (قصيدة النثر ليست شعراً، وإنما هي جنس أدبي ما... وأنا أخاف من ميليشياتها). والمقصود هو أن كتاب قصيدة النثر، الشباب آنذاك هم (صحفيون دكتاتوريون) يسيطرون على الميديا، لأن هذه الصحف تريد تعبئة الفراغ!!، كما أكد محمود درويش ذلك لي ولغيري، ولم يتراجع درويش عن وصفه لقصيدة النثر.
وفي كل الأحوال، كتبت مقالاً بعنوان (بعد أن هدأت العاصفة)، تناقلته مواقع الكترونية عديدة، شرحت فيه خلاصة تجربتي مع قصيدة النثر شاعراً وناقداً، وهناك مقالات أنصفتني، ووصفتني بأنني من (رواد قصيدة النثر في الستينات)، وقال الناقد اللبناني في مجلة الحوادث (جهاد فاضل)، بأن كتابي، هو (أفضل كتاب صدر في العالم العربي حول قصيدة النثر).
– اعتراضي لم يكن ضد (قصيدة النثر) كجنس أدبي مستقل، بل كان اعتراضي على موجة الكتابات الرديئة إلى درجة (التناسخ) في مجال قصيدة النثر. وها هي الموجة الجديدة تعترف بمعظم ما قلته، خصوصاً بعد أن صدرت الطبعة الثالثة الموسعة (651 صفحة). لقد حدثت تصفية ضرورية أفرزت الجيدين ورمت بنفايات قصيدة النثر إلى مزبلة التاريخ، وهي تتسع لرداءات قادمة. أنا مع حرية (الأشكال الشعرية الأربعة) في التعبير عن نفسها.
[(هل الشعر العربي في الساحة العربية في تراجع، أم لا يزال له حضوره الطاغي؟)]
[**
(المناصرة):*] نعم هو في تراجع بالتأكيد، والأسباب كثيرة، منها:
أولاً: دكتاتورية (الميديا) الموجهة إديولوجياً بالترويج للأنماط الهابطة من الشعر، تحت شعار (ديموقراطية النشر)، أنا مثلاً: أؤمن بالديموقراطية النوعية، وليس (ديموقراطية ما هبَّ ودبّ)، لكن مالكي الميديا سواءٌ أكانت صحفاً أو مجلات ورقية إلكترونية، أم (فضائيات تلفزيونية)، يقولون لك: (تعبئة الفراغ) ضرورية، فكيف سنملأ الفراغ.
ثانياً: دكتاتورية التفكير الأحادي، لدى الشعراء، وأدعياء الشعر. أصبح واضحاً في ربع القرن الأخير أن (الأنواع الشعرية)، هي: (الشعر العمودي – الشعر الحر التفعيلي – الشعر اللهجي – قصيدة النثر)، هذه هي الأشكال الموجودة في الواقع الشعري، لكن التعصب الإديولوجي لقصيدة النثر، وراءه مؤسسات وسياسات، المشكلة ليست في النماذج العليا لقصيدة النثر، وإنما في (غياب مبدأ التجاور)، وفي تغطي (شعراء الرداءة) في مجال قصيدة النثر، بالنوع الشعري وقداسته، وعدم الاعتراف بالآخرين. ولم يلاحظ النقاد أن قصيدة النثر نفسها إديولوجية باردة، قامت بتبريد اللغة الشعرية، وهاجم كتّابها (شعر الهوية)، باللجوء إلى (العدمية والعبثية)، والتقوقع حول (نرجسية الذات)، ورفض الأشكال الشعرية الأخرى.
ثالثاً: هناك صحف وفضائيات (وطنية في السياسة)، تروّج في أقسامها (الثقافية) للتطبيع مع ثقافة العدوان الإسرائيلي. فما هذا التناقض: (رئيس التحرير)، قومي وطني وثوري، ومحرره الثقافي يميني رجعي يتغطى بقشرة الحداثة السطحية.
رابعاً: الطقس الثقافي العام مملوء بالخيبات والأكاذيب، فنحن نعيش (عصر الانحطاط)، والمثقفون العرب يقفون على (يمين حكامهم) أحياناً، وهو عصر (الجوائز المنحطة)، حيث يباع ويشترى المثقفون بثمن بخس، أو بجائزة عالية القيمة المادية، لكنها مشبوهة، والشبهة هنا ليست في مصدر المال لأنه معروف، وإنما تقع الشبهة فيمن يقرر ويأمر رأس المال أن يدفع. الشعر العربي يبحث عن طريق (الوضوح الغامض).
[(أشيع (سابقاً) أن (المناصرة)، هو المنافس الأول لدرويش، لأنه يجمع بين (الحداثة والمقاومة والجاذبية) إلى حدٍّمعين. هل تعتبر نفسك الشاعر الأول؟)]
[**(المناصرة):*] (حالياً)، نعم أنا الشاعر الأول في الشعر الفلسطيني، أما أنا ودرويش، فنحن مدرستان شعريتان مختلفتان.
[(شاركت مع فدوى طوقان، ومحمود درويش في (تأسيس يوم الشعر العالمي)، ما دورك؟)]
[**(المناصرة):*] اقرأ ما كتبه الشاعر والإعلامي اللبناني (أحمد فرحات) في مقاله (شعراء العزلة الكبار – جريدة الاتحاد الإماراتية، 24/3/2016).
[(ما دور (المغرب) في ذلك؟)]
[**(المناصرة):*] المبادرة الفلسطينية، قُدِّمت إلى اليونسكو بتاريخ (15/5/1997)، أي في ذكرى النكبة الفلسطينية. أما (المتابعة المغربية)، فقد كانت بناء على طلب من منظمة التحرير الفلسطينية إلى دولة المغرب، باعتبارها دولة كاملة العضوية في اليونسكو، وبالفعل استجابت المغرب، فأرسلت (اللجنة الوطنية المغربية) رسالة تأييد بتاريخ (29/11/1998) أي في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني.
[(ماذا تفعل الآن بعد تقاعدك في (1/9/2017) ؟)]
[**(المناصرة):*] عملت (15) عاماً في الصحافة العربية، وعملت ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً في التعليم الجامعي في خمس جامعات هي (قسنطينة) – (تلمسان) في الجزائر – و(جامعة القدس المفتوحة)، وهي جامعة فلسطينية في عمّان (1991-1994)، تم نقلها إلى فلسطين. وعملت في (جامعة الأونروا – كلية العلوم التربوية). وكنت عميداً لها، وفُصلت من عملي بذريعة (الاحتجاج العلني) على قرار (الأمم المتحدة – الأونروا) بإغلاق الكلية. وخرجت مظاهرت في عمّان، تطالب بالتراجع عن القرار،فاتخذت الأونروا قرارها بالتراجع عن إغلاق الكلية، مع فصل العميد.
– حالياً – (أقرأ، وأكتب، وأراجع الأطباء). أما الدخول إلى فلسطين مسقط رأسي، فقد صرّحتى منذ سنوات: (أنا ضدّ اتفاق أوسلو، أدخل وطني برقم رطني، وليس بتصريح إسرائيلي بصفتي سائحاً أو زائراً) ولكن السلطة لا يعنيها دخولي ما دمت معارضاً، إلا من باب (الابتزاز)، أي (تدخل إلى رام الله زائراً، وتنفاهم بعد ذلك).
بني نعيم - الخليل
ولدت في (بلدة بني نعيم – الخليل)، التي تقع شرقي الحرم الإبراهيمي الشريف على بُعد (7كم)، في (11/4/1946). عشت في فلسطين ثمانية عشر عاماً. درست في أربع مدارس في الخليل، هي: (مدرسة بني نعيم الإعدادية – مدرسة وادي التفاح – مدرسة ابن رشد – ومدرسة الحسين بن علي الثانوية)، وأنهيت المدرسة الثانوية صيف 1964، وتوجهت (15/10/1964) من مطار قلنديا إلى القاهرة، ولما حدثت كارثة عام 1967، لم أستطع العودة إلى مسقط رأسي، وحتى اليوم. أريد أن أدخل وطني فلسطين (برقم وهوية فلسطينية)، ورفضت الدخول (سائحاً أو زائراً).
– أنتمي إلى أقدم عائلة (المناصرة) موثقة في فلسطين، منذ العام التاسع للهجرة، ومتسلسلة حتى اليوم، فعائلتي (المناصرة، وعائلة التميمي)، هما ورثة (كتاب الإنطاء الشريف)، الذي منحه (الرسول محمد – ص) للأخوين (نعيم الداري، وتميم الداري)، وهما صحابيان كنعانيان فلسطينيان خليليان زارا الرسول في العهد الروماني، وأسلما أمامه، وعادا إلى فلسطين التي كانت ما تزال تحت الاحتلال الروماني. جدّي الأعلى هو (منصور بن نعيم بن أوس الداري). وتقول بعض المراجع أن (موسى بن نصير = فاتح الأندلس)، ولد في بلدة (بني نعيم).