الصفحة الرئيسيةبقايا ذاكرة
كانون نار جدتي
الأربعاء ٣ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم عادل سالم

لم يكن لدينا في تلك الأيام مدفئة غازية، أو حتى كهربائية، كانت مدفأتنا الوحيدة تتكون من كانون نار جدتي الحاجة صبرية رحمها الله، مدفأة تعتمد على الفحم المشتعل الذي كانت جدتي ترسلني أو ترسل عمي عبد العظيم الأكبر مني بسنوات لنحضره من أحد الأفران القريبة منا وما أكثرها في تلك الأيام (ستينيات القرن العشرين) التي عشناها في البلدة القديمة من القدس.

فلم يكن يخلو شارع من فرن للخبز «العيش» البيتي، أو التجاري، فقد شلكت الأفران في خمسينات وستينات القرن العشرين ركنا أساسيا من العائلة الفلسطينية في المدينة المقدسة بعكس القرية التي كان سكانها يخبزون خبزهم بطوابينهم [1]. في المدينة كان المواطنون يرسلون صواني اللحمة أو المعجنات من السفيحة أو أقراص السبانخ، السمبوسك …إلخ إلى الأفران القريبة مقابل بعض القروش البسيطة، كحياتنا التي كانت بسيطة وغير معقدة والناس في أغلبهم راضون فرحون بما قسم الله لهم.

طابون فلسطيني
طابون فلسطيني

كنت أحمل الكانون فارغا لأعود به مليئا بالفحم المشتعل الذي يصلي وجهي حتى أصل البيت، فيتجمع كل سكانه من عماتي وعمي الأعزبين مع جدي عبد الرحمان، وجدتي حول الكانون يدفئون به أجسامهم المنتفضة من البرد، وكانت الأيدي تتسابق أيها تكون فوق الفحم ليجري الدم مجددا بها بعد أن يكون قد قارب على التجمد.

كانون نار جدتي مثل كل كوانين فلسطين لم يكن مجرد وسيلة للتدفئة بل كان أبعد من ذلك بكثير، كان تراثا وأسلوب حياة لا يعرفها إلا من عاش تلك الفترة وجلس مع أهله حول الكانون.
أبرز إيجابيات كانون النار كان تجميع كل العائلة حوله، إذا كلما ابتعد أحد عن كانون النار سيشعر بالبرد حتى لو في نفس الغرفة لذلك كان يجبر على الجلوس قريبا منه، وبغياب التلفزيون كان الأهل يتبادلون الحديث، والنكات، ويثرثرون في كل شيء، فكان جدي يحدثنا عن زمن الاحتلال البريطاني، كانت جدتي تقص علينا قصص الغول والعمورة، وكل ما يخيف الأطفال.

وخلال الأحاديث والقصص كانت جدتي تستغل الوضع فتحضر الشاي على الفحم، واسألوا محبي الشاي كيف أن تحضيره على الفحم له نكهة مختلفة وأكثر لذة، أو تشوي الكستنة، أو حبات بطاطا أو أي شيء يساعد في إطالة السهر، والسمر لأنه في فصل الصيف وبغيات الكانون كانت تقل تلك الجلسات التي تضم الجميع مرغمين.

كنا نتسابق جميعا على احتساء الشاي بالنعناع من يد جدتي، ونتسامر ونستمع لأحاديث جدي الطيب رحمه الله، ونضحك عندما يختلف مع جدتي وتفرض عليه رأيها. كنا نحتسي الشاي بالكاسات التركية الصغيرة نتلذذ أثناء رشفها كأننا أمام خمر معتق منذ عشرات السنين. في تلك الأثناء كنا نتبادل أخبار المدينة كلها صغيرها وكبيرها كنشرة أخبار هذه الأيام.

اليوم اختفى كانون النار من بيوتنا، فاختفت معه ليس فقط نكهة الشاي المغلي على الفحم، بل تفرقنا ولم نعد نجتمع إلا ما ندر وبعد اتصال مسبق وربما في المناسبات فقط، اختفى كانون النار، ورحل جدي وجدتي عن الوجود فأخذا معهما جيلهما، ومحبتهما، ونكهة شايهما وخبزهما، وابتسامتهما، تلك النكهة التي يجهلها أبناؤنا ويضيقون ذرعا إن حدثناهم عنها.

اختفى كانون نار جدتي فاختفت الآذان الصاغية التي كانت تستمع لأحاديث الكبار فتتعلم منها، اليوم حل محلها ألعاب إلكترونية حولت أولادنا لآلات، ليس لديهم وقت للاستماع لنا، بل يضيقون ذرعا بنا إن حدثناهم فأشغلناهم عن ألعابهم.

بحثت في الشبكة العنكبوتية عن كانون نار يشبه كانون جدتي الدائري الواسع فلم أعثر على صورة تشبهه، فكوانين هذه الأيام تختلف كثيرا لأنها معدة لشوي اللحم، والفراخ ولا تحمل نكهة جيل مضى.

جدي، جدتي رحمكما الله، كم نحن مشتاقون لكانون نار بيت القرمي وقرميده في بيت المقدس رغم أنه كان يدلف من المطر فتتساقط نقط الماء بالبيت أثناء الليل من عدة ثقوب في السقف. حاول جدي إصلاحها أكثر من مرة ففشل فصار يضع تحتها تنكة ماء هنا، وطنجرة هناك فتحدث أثناء تساقط الماء بها عزفا موسيقيا ننام على أنغامه، ونحفظه عن ظهر قلب، ونستغرب إن أمطرت بغياب ذلك العزف المطري المنفرد.

لم نكن نعلم أبدا أنه سيأتي يوم نشتاق لذلك العزف الطبيعي الذي من الله به علينا، ونتمنى أن يعود ولو لحين.

ملاحظة :

بعد نشر النص جاءتني رسائل من قراء من المغرب قالوا لي أن كلمة طوابين التي وردت في المقال تعني شيئا قبيحا في المغرب، لذلك نشرت مع النص صورا لطوابين بلادنا فلسطين لتوضيح الأمر.

[1الطابون، جمعها طوابين، وهو فرن بسيط يتم بناؤه من الطين والحجارة بشكل شبه كروي ويترك في أعلاه فتحة لاستخدامه للخبز أو إعداد بعض الأكلات الشعبية. يوضع حجارة صغيرة في داخله، مرفق بعض الصور أدناه


تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً