الصفحة الرئيسيةقصص وسرد
أبو يعقوب القهوجي
الاثنين ٢١ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم عادل سالم

كان البرد قارسا في أحد أيام كانون أول (١٩٦٧)، لا يزال يذكره تماما كأنه حدث يوم أمس، كان وسط زوجته وابنه يعقوب وابنته سماح متجمعين حول كانون النار‪،‬ في بيتهم المكون من غرفة واحدة في شارع الواد المحاذي للمسجد الأقصى المبارك، وكان حينها يعمل في أحد المقاهي في نفس الشارع نادلا أو بالعامية «قهوجي»، وبهذا عرفه الناس كلهم باسم أبو يعقوب القهوجي. ومن النادر جدا أن تجد من يعرف اسمه كاملا، فقد غلبت كنيته، ومهنته على اسمه.

ابنه يعقوب كان في الثالثة عشر، وابنته سماح في الثامنة، كانوا سعداء بما رزقهم الله، وعلاقتهم مع جيرانهم كلها طيبة.
لكن في تلك الليلة تعكر مزاجه، وثارت ثورته بعد أن زاره مالم يكن في حسبانه ابدأ.

في التاسعة مساء على ما يذكر سمع طرقا على الباب قال ليعقوب:
 اذهب يا بني واعرف من الطارق.

كان يتوقع ابن أحد الجيران جاء ( كما جرت العادة) ليقترض ملعقة ملح أو رغيف خبز أو أي شيء آخر، ربما نقص لديهم ولا يستطيعون شراءه في تلك الساعة المتأخرة، وقد فعلت زوجته ذلك مرارا عندما كانت ترسل يعقوب إلى بيت جارهم أبو محمد تستقرض بعض الرز أو العدس لإعداد الطعام.

كانت تلك الأيام رغم الفقر المطقع أيام خير وبركة، فالناس كانوا يعطفون على بعض وكانت قلوبهم رحيمة.
هب يعقوب على الفور وفتح الباب، تسمر في مكانه وصاح بصوت مسموع:
 يابا الجيش.
 جيش؟!

قفز من مكانه وتوجه نحو الباب فيما وضعت زوجته الشال الأسود على رأسها كي لا يدخل أحد ويراها مكشوفة الرأس.

تقدم نحو الباب ليشاهد عدة أفراد من الجنود ببنادقهم ومعهم رجل أمن طويل القامة عريض المنكبين، ورجل دين يهودي ذقنه طويلة، وكذلك سوالفه، ويلبس لباسا تقليديا، كنا بالقدس نسميهم (السكناج). كانت ملابسه السوداء تعرف عن نفسه.
قال له رجل المخابرات مبتسما:
 مرحبا يا أبا يعقوب.
أما رجل الدين اليهودي فهز رأسه محييا. كانت تصرفاتهما غريبة على غير العادة، لم يفهم مقصدهما، فبلع ريقه وسأل:
 أي خدمة، ماذا تريدون؟ هل تبحثون عني؟
 لا تقلق نحن لسنا هنا لاعتقالك. ألا ترحب بضيوفك يا رجل؟
 ضيوف؟ أي ضيوف أنتم؟ البيت عندنا من غرفة ولا مكان لاستقبالكم.

في ثوان معدودة كان أبو يعقوب يتساءل في داخله:

«ما الذي يريدونه؟! هل جاءوا لاعتقال ابني الصغير؟ غير معقول، لا بد أنهم جاءوا لاعتقالي، ربما أحد الجواسيس في المقهى الذي أعمل به قدم عني تقريرا كاذبا، لكن ما الذي جاء بهذا الحاخام؟! لم أسمع أن رجل دين يرافق الجيش لاعتقال أحد!»

قطع عليه تفكيره رجل المخابرات قائلا:
 لا عليك أنا الكابتن أبو نهاد، وهذا الراب يوسف جئنا لنطمئن عليك ونساعدك في الانتقال من هنا.

هدأ قليلا، فلم يأتوا لاعتقاله، قال له مستغربا:
 انتقال، لماذا؟
 لقد سمعنا أنك تتعرض لمضايقات من جيرانك المسلمين.
 مضايقات من جيراني؟ المسلمين؟ لا لا يوجد مضايقات، كلنا هنا مسلمون ومسيحيون يدا واحدة.
 ولكنك يهودي لا داعي لإخفاء ديانتك بعد اليوم. سجلاتنا أكدت أنك يهودي بقي في الطرف الأردني من أرض إسرائيل، وها قد جاء اليوم الذي تعود إلى أصلك وتعلن عن نفسك.
أكمل الحاخام قائلا:
 ليحميك الرب يا أهرون لقد تحملت الكثير من أجل إسرائيل هل العائلة بخير؟
شعر بلطمة على وجهه. ما الذي أتى بهم إلى بيته ومن قال لهم إنه يهودي؟ كان ابنه يعقوب ينظر له مستغربا ما يسمعه منتظرا رده عليهم. قال لهم:
 أنا لست يهوديا، أنا مسلم عربي وكذلك كل عائلتي.
ضحك الكابتن أبو نهاد وقال:
 هل غيرت ديانتك والتحقت بهم خوفا من مضايقاتهم؟
أنت حسب سجلاتنا أهرون بن عامي والدك جاء من المغرب عام ١٩٠٨ واستقر في القدس.
لم يدعه يكمل فقال له:
 ولكني غيرت ديانتي وأعنلت إسلامي عام (١٩٤٥) أي قبل الحرب وقيام دولة إسرائيل، ولم أسلم خوفا. وأنا الذي اخترت البقاء مع الطرف العربي باختياري.
فقال الحاخام:
 أمامك فرصة لتكفر عن غلطتك، وتطلب من الرب أن يغفر لك، وتقديم القرابين والعودة إلى الجذور.
 جذور؟ أنتم أخطأتم في العنوان. أنا عربي مسلم لن أغير ديانتي وإذا أردتم اعتقالي فأنا جاهز.
غضب الحاخام وقال له:
 سيغضب عليك الرب وتحل عليك لعنته.
فرد عليه أبو يعقوب:
 لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فقال الحاخام لأبو نهاد:
 دعنا نذهب قبل أن نأثم بسببه.
قال أبو نهاد وهو يستدير راجعا:
 لقد ضيعت عليك فرصة العمر.

شعر بالسعادة وهم يغادرون، فأغلق الباب على الفور، كانت عيون يعقوب لا تفارقه، انتظرت زوجته حتى جلس حيث بادرته قائلة وقد سمعت كل الحديث:
 الكلاب لا يتركون أحدا بحاله.
أما يعقوب فسأله:
 هل كنت يهوديا يا أبي.

قال له بهدوء:

[(«يا بني قصتي طويلة، كنت سأحكيها لك عندما تكبر وتصبح ابن الثامنة عشرة، لكن بما أنك سمعت ما سمعت سأشرح لك باختصار.
أنا أصلي يهودي، هاجر والدي صغيرا إلى فلسطين واستقر فيها، وهنا ولدت وعشت مع إخواني العرب المسلمين، وعندما بدأت موجات هجرة اليهود تتسع، وبدأوا يشكلون العصابات للاعتداء على العرب، طلبوا مني المشاركة، فاعترضت على الهدف لكنهم أجبروني على ذلك بحجة الدفاع عن اليهود، وفعلا انطلت علي الحيلة وشاركت في إحدى المجموعات. وفي أحد الأيام اعترضت مجموعتنا سيارة عربية في طريقها من القدس إلى يافا، فاوقفناها، وقام من معي بالاعتداء على أفرادها، وعندما اعترضت على فعلتهم، شتموني وقاموا بقتل اثنين من الركاب، وجرح الآخرين.

غضبت لهذا العمل وعرفت منذ تلك الفترة أن كل المجموعات التي شكلت للدفاع عن اليهود إنما كانت للاعتداء على العرب، فهربت من المنطقة اليهودية حيث كنت أعيش في تلك الفترة وقررت إعلان إسلامي والانضمام لاخواني العرب.

في البداية واجهت بعض المضايقات، فقد كان بعضهم يشكون أنني أتجسس عليهم، لكن بعد الحرب وبقائي في الطرف الأردني فقد تغير الحال، ونسي الناس أصلي اليهودي وتعاملوا معي كواحد منهم. وفي عام (١٩٥٤) تزوجت أمك العربية المسلمة وكنا سعداء عندما رزقنا بك وبأختك.»)]

سكت قليلا فقالت أم يعقوب:
 يا بني نحن مسلمون ويجب أن نحمد الله أننا كذلك.
فقال يعقوب:
 الحمد لله أنك أعلنت إسلامك يا والدي. فأنا لا أتصور أن أكون يهوديا. لا إله إلا الله.
فقالت ابنته وهي تبتسم:
 محمد رسول الله.



تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً