الصفحة الرئيسيةقصص وسرد
بَلَسْتينا
الأربعاء ٢١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم عادل سالم

جلس ناصر وحيداً في زنزانته الانفرادية في السجن، لم يكن معه أحد منذ نطق القاضي قراره النهائي بإعدامه هو وزوجته، لذلك وضع في زنزانة انفرادية، لا يرى فيها الشمس إلا عندما يخرج ساعة كل يوم في ساحة صغيرة لا تزيد مساحتها عن ستة أمتار مربعة، عبارة عن مجموعة حيطان وسقفها مغطى بالسياج الحديدي العالي جداً لا يستطيع أحد الوصول إليه. كان لا يخرج إلا وحيدا لأنه محكوم بالاعدام حيث تخشى إدارة السجن أن يقوم المحكوم بالاعدام بقتل أحد السجناء الآخرين لسبب أو لآخر.

السجن فى الولايات المتحدة ليس سهلا كما يتوقع القابعون خارج القضبان أو الذين يعيشون في دول أخرى، فهو من أسوأ السجون بالعالم خصوصا للمحكومين أحكاما عالية أو تتعلق بالقتل والعنف والاغتصاب وعمليات السطو.. إلخ..
عالم السجن عالم إجرام محترف والسجناء دائما فى معارك مستمرة . ما يزال ناصر يذكر قبل الحكم عليه بالإعدام كيف كان يقضي أيامه في السجن .
دائما في حالة حرب كل واحد يحمل معه آلة حادة للدفاع عن نفسه أمام المتربصين به من كل جانب. فالسجن غابة وإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ومن لم يكن شرسا أو جزءاً من عصابة سوف ينتهي به الوضع للاغتصاب الدوري.

الشيء الذي ساعد ناصر على اتقاء هذه الشرور أنه كان كبير السن فلم يطمع به الصغار لكن الأهم كان كونه مسلما وفي السجون الكبيرة يلتقي كثير من المسلمين السود وهم يشكلون تكتلا داخل السجن يمنع العصابات الأخرى من الاعتداء عليهم.
عندما كان ناصر يخرج إلى الساحة تقيد يداه ورجلاه على الرغم من أنه كان يخرج وحده، فلم يكن يسمح له بالخروج من الزنزانة من دون قيود.
خرج ناصر للساحة مطأطئ الرأس يسير بشكل دائري في تلك الساحة الضيقة لا يدري أين يقوده تفكيره.

أن تكون محكوما بالإعدام تنتظر لحظة تنفيذه شيء مرعب حقا يصيبك بالهستريا، بالقلق الدائم، لا تعرف تماما متى سينفذ بك قرار المحكمة لكنك تعرف أن نهايتك قد دخلت مرحلتها النهائية.

بدأ ناصر يتمتم لنفسه:
 كل هيئة المحلفين أدانتني بالمحكمة، ولم تنفع كل الاستئنافات التي قدمتها.
ثم أكمل:
لم يكن فيهم شخص واحد يفهم مأساتي، ليس عدلاً أن يأتي أشخاص لا يعرفون بالقانون ولا بالثقافات ولا بمعنى العدالة ليقرروا مصير رجل. ليأخذوا روحه.
ترى لو كان الحكم صادرا عن عدة قضاة كما يحصل في بلاد أخرى هل كان الوضع أفضل؟.

لم يهمهم أي شيء، كل ما كانوا يبحثون عنه هو، هل قتل ابنته أم لم يقتلها، كانوا يعتقدون أنني أكره ابنتي وأنني كنت أريد قتلها ليتهم عرفوا أنني أحبها أكثر منهم جميعا، ليتهم عرفوا كم أحببتها، كم قضيت الليالي ساهرا لتربيتها، كم قبلة طبعت على خدودها، ليتهم عرفوا أنني منحتها من الدلال أكثر مما منحت بقية إخوتها بما فيهم زينب نصف شقيقتها.

لقد كانت الابنة المميزة، المدللة، سميتها بَلَسْتينا (فلسطين بالإسبانية) نسبة لفلسطين لانها تعني الكثير لي، ليتهم يقولون لي متى سأعدم ليتهم يعدمونني الآن لكي أستريح مما أنا فيه.

بدأ يذرف الدموع بصمت وهو يتذكر أباه قبل عشرين سنة الذي بكى وهو يرجوه أن يعدل عن السفر إلى الولايات المتحدة لكنه لم يستمع إليه، قال له أبوه
  يا ناصر لماذا السفر وأنت وحيدي؟ لمن تتركنا؟ من سيرعى الأرض يا ابني؟
  يا والدي سأعود لك بمال يغنيك عن الأرض والعمل بالأرض!!

لم أر والدي منذ تلك الفترة، لم أعد له بشيء ولن أعود. هل هو عقاب السماء؟ لقد ظلمت زوجتي سهام، زوجتي الأولى التي أنجبت منها نبيل وزياد وزينب، طلقتها حتى أتزوج روزالي، تركتها تعيش مطلقة الان في ترمسعيا، لا يقترب منها أحد.
لم أسأل عنها ولا أعرف أخبارها، يقينا إنها الان تفرك يديها فرحا انتقاما لشرفها الذي بعته من أجل الدولارات.

كنت قاسيا عليها، ما زلت أذكر حينما أعلمتها بموعد سفري، اهتزت ولم تصدق وبدأت تبكي، قلت لها في حينه سأعود لك بعد عشرين سنة، فصرخَت وطلبت الطلاق.
 أي زوج أنا؟
 الآن أتذكر كل ذلك؟ لماذا لم أتذكره حينما كنت خارج القضبان؟
ه- كذا نحن البشر لا نتذكر أخطاءنا إلا عندما نكون في ورطة؟
 ليتها ورطة عادية إنها النهاية بحد ذاتها.

يقينا أنني سأموت ألف مرة قبل أن ينفذ بي حكم الاعدام أتراهم يقصدون ذلك؟ أتراهم يريدونني أن أموت كل يوم، كل لحظة، كل ثانية؟ هل يريدون الانتقام مني أم يريدون إراحة أنفسهم من قتلي.

انتهى الوقت وعاد ناصر للزنزانة، جلس ناصر فى زنزانته يقلب بعض الكتب التى أحضرها للقراءة، أرسلتها له سابقا زينب ومنها القرآن الكريم لكنه منذ حكم بالإعدام أصبح يكره القراءة، فلماذا يقرأ الكتب وهو على وشك الإعدام ألديه الرغبة في القراءة؟.
من يواجه قرار الإعدام ليس لديه الرغبة في القراءة؟
هل يمارس الرياضة ؟ لماذا ؟ ما دام سيعدم غداً أو بعد غد أو لا يعلم متى . ما فائدة الصحة مادمتَ ستموت بعد قليل؟.

أحس بدوار شديد وضع يده على رأسه وقال متمتماً:
رحماك يا رب.. اللهم اجعله إعداما هيناً اللهم اجعله إعداماً هيناً . كان أكثر ما يخيف ناصر أنه قرأ مرة أن أحد المحكومين بالاعدام والذي تم تنفيذ الحكم عليه بالصعقة الكهربائية لم يمت من الصعقة الأولى خلافا للعادة ولا الثانية فتم زيادة شدة الصعقات حتى أصبح الدخان يخرج من رأس الرجل المحترق قبل أن يلفظ أنفاسه .
اللهم ارحمني من هذا العذاب ، لماذا لا تميتني الآن؟. أم إنك غاضب علي مثلهم؟ هل ستسامحني ؟ هل ستغفر لي؟ أنت الوحيد القادر على فهم أحاسيسي الداخلية أنت الوحيد العارف سر ما حصل .

اللهم اغفر لي ذنوبي، اللهم اعف عني، أعرف أنني خالفت تعاليمك منذ الشباب ، لم أصلّ إلا ما ندر ومارست من الموبقات الكثير..
لكني لم أكن سيئا يا رب، لم أكن مثل الآخرين ،كنت طيب القلب، هل تقبل توبتي يا رب؟.
هل تقبل توبة رجل لحظة إعدامه؟!
هكذا نحن البشر يا رب نتذكرك فقط ونحن على وشك الموت
لماذا يا ناصر لم تتذكره وأنت بكامل صحتك وقواك العقلية؟ لماذا لم تتذكره وأنت تطلق أم نبيل بعد أن صبرت عليك كل هذه السنين؟ طلقتها وتركت عندها أولادك الثلاثة في فلسطين لتتزوج من الأمريكية من أصل مكسيكي (روزالي)، فكل ما كان يهمك كيف تحصل على الجنسية الأمريكية.
هو عقاب السماء إذن؟
صدق من قال يمهل ولا يهمل.
إن أذنبت يا ربي، فلا أمل لي إلا رحمتك، غفرانك، عفوك. سامحيني يا زينب فقد قسوت عليك .حرمتك من حنان الأب ومنحته لبلستينا التي كانت سبب مصيبتي ومصيبة أمها ومصيبتنا جميعا.

آه يا روزالي ،في أي زنزانة أنت الآن وماذا تفعلين؟ هل ندمت لهذه النهاية المأسوية ؟ هل كنت تعرفين أن ابنتنا التى كم تعبت لأجلها، تتمرد علينا بهذا الشكل؟ ألم نكن نبحث عن مصلحتها؟ ما الجريمة التى أقدمنا عليها بحقها ، ألم ترفع السكين تهددنا بها؟ ألم ترسل صديقها ليعتدي على والد أحبها.
لا أصدق أبداً ما يجري حولي يبدو أن لا مفر لي من مواجهة الموت بشجاعة.

هل تسرعت يا ربي فى الزواج من روزالي؟ ما الفرق بين أن تكون مكسيكية أو عربية، أليست بنات أبو سلمان من الفلسطيني يدرن على حل شعرهن؟ أليست ابنة سعيد اللبناني تفعل ما كانت تفعله بلستينا، أليست حنان المغربية على كل لسان؟ ألم تترك صفية السورية أهلها وهربت مع صديقها الأمريكي؟ ألم تهرب ابنة الشيخ المصري إمام الجامع البيت لشهرين ثم عادت وهي حامل؟ مئات البنات إن لم يكن الآلاف من كل الجاليات العربية والإسلامية هربن من أهاليهن في غفلة من الزمن.
أنا فى حيرة أبحث عن سبب واحد أقنع نفسي فيه فلا أعرف .
هل المجتمع هو السبب؟.

لا ليست جنسية الأم السبب. إنها ضريبة الغربة التي علينا أن ندفع ثمنها. بعضنا يدفع ثمنها من عمره وبعضنا يدفع فلذه أكباده وبعضنا يدفع مشاعره وأحاسيسه وبعضنا يدفع فلوسه .

قالوا لي دع ابنتك تختار ما تريد، فهل كانت فعلا حرة في الاختيار؟ كيف يكون الأطفال أحراراً في الاختيار وهم يشاهدون يوميا عشرات البرامج التلفزيونية التي تدعو للعنف، للتدخين ، لشرب المخدرات، الكحول، للدعارة؟ كيف يمكن أن يكون الاختيار حراً.

كيف سيختار الأطفال وهم يرون الواقي الذكري في حمامات المدارس لتشجيع الأطفال لاستخدامه لعدم نقل الأمراض؟.
ألا يدفع ذلك الأطفال لممارسة الجنس باعتباره مشروعا وقانونياً بلا ضوابط وكأنه لعبة يمارسها الأطفال؟

كيف يعلمون الأطفال احترام الآباء وهم يقول لهم إذا ضربك أبوك حتى لو ضربا خفيفاً اتصل بالشرطة ؟كيف يختار الأطفال عندما يقولون للبنات منهن إن منعك أبوك من صديقك اتصلي بالشرطة. أين حرية الاختيار . أين الحرية؟
لم يتركوا لابنتي سوى طريق واحد على الرغم مني ، يبدو أن الإنسان لن يحقق فى حياته كل شيء، إما الفلوس وإما السعادة الروحية والعائلية وأنا ركضت نحو الأولى ففقدت الثانية.
آه يا روزالي
ها أنت بسببي سوف يشنقونك معي لماذا تزوجتني ؟ أي قدر أرسلك لي؟ لماذا لم تتزوجي شابا من أصل مكسيكي؟ ما لك ولهذا العربي المنحوس الذي يحمل فى داخله ثقافة أخرى وعادات أخرى من الصعب محوها من ذاكرته، من داخله ،لأنها جزء منه، إنها هويته تكوينه الخاص ،إنها شكله الداخلي الذى لا فكاك منه؟.
هل أنت نادمة على الزواج مني؟ ألا زلت تحبيني؟
هل تذكرين كم كنا فخورين بها، ندللها، نلعب معها؟
كنت ألحقها فتهرب وتختبئ تحت السرير وأنا أتظاهر كأني لا أعرف فابحث عنها هنا وهناك وأنا أنادي
 بلستينا، بلستينا.
وعندما أنزل برأسي تحت السرير فجأة كأنني وجدتها، أصيح بلستينا وجدتك فتضحك وتستسلم، فأهرب أنا لتلحق بي وتبحث عنى، لكن أين أختبىء ؟ لا أجد سوى الحمام أختبىء به وأقف في المكان المخصص للدوش وأسحب الستارة، لكنها تجدني على الفور فقد عرفت كل الأماكن التى يمكن لي الاختباء بها.
ما أجمل تلك الأيام الجميلة، ما أروعها!!.
أتذكرين روزالي عندما ولدت بلستينا؟
كنت أقول لك هذه الفتاة من أصول عربية وإسبانية، والإسبان فيهم جذور عربية وشرقية لذلك فهي أقرب للعرب. لكن جمالها كان فيه مسحة إسبانية مكسيكية، لقد أخذت مسحة منك يا روزالي.
أنفها الصغير كم قبلناه أنا وأنت.

ماذا تنفعني تلك الذكريات سوى أنها تفتح جروحي؟
أين أمي وأبي ؟ رحمهما الله.
أين سهام؟
يقينا ستشمت بي الآن، أذكر آخر مكالمة معها عندما اختلفنا حول الطلاق قالت لي وهي تبكي
 الله لا يوفقك. الله ينتقم منك.
هل استجاب لها الله، هل هذه نقمة منه لما فعلت بها؟.
أليس هو الذي حلل لنا زواج اثنتين و3 و4؟.
أأكون ظلمتها؟ رحماك يا رب؟ هل أستحق كل هذا؟.
يبدو أن الواحد منا لا يذكر ربه إلا عندما يكون فى مصيبة أو على شفا الموت؟ سامحيني يا سهام.
ليتك أمامي لأطلب السماح منك.
ليتك هنا لأقبل يديك لصبرك علي وعلى ظلمي لك، ليتك هنا لتشاهدي دموع الحزن والألم.
أعرف إنني ظلمتك ،هكذا نحن معشر الرجال، لهذا كانت الجنة تحت أقدامكن لا تحت أقدام الآباء.
هل تتذكريني الآن؟ هل ستصلك أخباري وأنا هنا مكسور الجناح ؟ ليتك تشفقين على حالي وتقولين سامحتك يا ناصر ، سامحتك.
لعل عشرتنا القديمة تغفر لي فكم كنت أحبك!
أتذكرين حينما كنا شبابا قبل الزواج وأنا ألحق بك في الوادي القريب من هناك فى أرض والدك وخلف شجرة الزيتون عندما طبعت على خدك أول قبلة؟ هربت مني وأنت تقولين:
 ناصر حرام، الله يرانا، فقلت لك.
 ليشهد إذن على حبنا، ليشهد على ارتباطنا المقدس
يا حسرتي.
لقد شهد أيضا طلاقي لك.
شهد جحودي ونكراني لكل تلك المشاعر النبيلة.
ليغفر لي الله عما سلف.

كان ناصر متوتر الأعصاب بعد قرار الحكم وكلما سمع صوت باب يفتح أو صوت مفتاح أو صوت شرطي قريب من زنزانته ،اعتقد أن ساعته قد حانت . ولأن أصوات الأبواب والمفاتيح وأقدام السجانين تسمع ليل نهار لذلك كان لا ينام ساعة إلا واستيقظ فيها أكثر من مرة.
كان يكره صوت المفاتيح، صوت الأبواب، كانت تثير قلقه وخوفه وعجزه عن مواجهة قرار الإعدام.
الساعة العاشرة صباحاً ، جاء خمسة سجانين بلباسهم الرسمي فتحوا زنزانة ناصر وجدوه جالساً ينتظرهم، طلبوا منه الوقوف وضعوا القيود بيديه ورجليه، ثم وضعوا كيسا على رأسه وساقوه لغرفة الإعدام .

عرف ناصر أن نهايته قد أوشكت بدأت أعصابه تتراخى، لم تستطع قدماه أن تحمله فسقط على الأرض حمله السجانون كان خفيفا على كل حال فقد أسهم قلقه الدائم وقلة الأكل في أن يخسر أكثر من نصف وزنه. كان منهاراً غير قادر على الحركة لم يصدق أن نهايته ستكون بهذا الشكل. بدأ يصرخ بين أيديهم..
 أنا بريء . أنا لست قاتلا ، لم أقتلها ، ارحمني يا رب، ارحمني من هؤلاء الأوغاد . لا إله إلا الله ..
قاطعه أحد السجانين..
 اغلق فمك يا ابن الزانية ،لقد أزعجتنا
وقال سجان ثان .
 إلهك لن يساعدك وأنت قاتل.
فقال سجان ثالث للثاني .
 اخرس ،هذا ليس من اختصاصك .فهو الآن سيموت .ماذا تتوقع من سجين يواجه الموت .
 لكنه قاتل. هؤلاء الغرباء يأتون هنا ليمارسوا القتل والسرقة يعتقدون أن البلد بلا قانون.
 لا تنس هذه البلد معظمها أغراب. وقد أعدمنا الكثير غيره من بيض وسود فلماذا تخصه بالحديث؟
صرخ ناصر، لا إله إلا الله..
قال الشرطي الرابع:
 دع ربك ينقذك الآن ـ الله!!
قال المسؤول بصوت حاد.
  انتهى النقاش اخرسوا جميعا لقد وصلنا.

كان ناصر يرتجف كمن تعرض لبرد شديد ،لم يستطع أن يبلع ريقه لكنه كان يردد دائما:
ـ ارحمني يا رب ، اغفر لي، وكان كالأطفال يبكي..

وصل السجانون إلى غرفة الإعدام .كانت غرفة الإعدام وسط ساحة داخلية معدة بكرسي الإعدام وأجهزة كهربائية يتم ربطها بالمحكوم. خارج الغرفة رفعوا عنه الكيس، كان منظره مخيفا ،شعره متناثراً، ذقنه طويلة لم يحلقها منذ مدة طويلة، لمن يحلقها ؟ نظر بمن حوله لعل أحدا يرأف بحاله لكنه لم ير في عيونهم إلا الاحتقار، كانوا قساة لا تعرف قلوبهم الرحمة، فلو كانوا يعرفون الرحمة لما عملوا في هذه المهنة المرعبة، هم يطبقون قرارات المحكمة ، فأين ذنبهم؟.
سألهم..
 أين زوجتي ، أريد رؤيتها للمرة الأخيرة ، لقد وعدتموني بذلك.
رد عليه ضابط كبير.
  ستكون هنا بعد أن نقرأ عليك كل ما يتعلق بالاعدام.
قرأوا عليه لائحة الاتهام، قرار القاضي، تاريخ الاعدام، بعد ذلك أحضروا زوجته من زنزانة أخرى في السجن لم يكن حالها بأفضل من حاله.

ها هي روزالي أمامه بشحمها ودمها، امرأة عاشت معه عشرين سنة، وكان قدرها أن تعدم معه في التهمة نفسها لم يصدقوه ولم يرحموها.
روزالي تقف أمامه كأنها شبح بعد أن كانت تسحر الشباب بجمالها وغنجها وشعرها الطويل الأشقر، يا ألله لقد فقدت روزالي كل سحرها وجمالها لم يُبقِ لها قرار الاعدام شيئا كأن حسنها وسحرها سيموتان معها كي لا يتمتع بهما أحد بعدها.
هذه هي روزالي التي طلقت أم نبيل بسببها، تودع الحياة معي فيما أم نبيل الآن تجلس فى فلسطين مع صديقتها تفرك يديها فرحا لأن الله انتقم لها.
هذه روزالي التي أحببتها فعلا لا قولا، لذلك لم أطلقها أبدا.
لم أكن أعرف إنني أختار الموت بدلا من الحياة، من يعرف منا طريق سعادته؟
نظر إليها بملابس السجن كأنها هيكل عظمي، ولم يكن حاله أفضل منها.
نظرت إليه ،نظرة الوداع ،ابتسمت ،بكت، صرخت ناصر، لا تتركني وحدي، دعهم يعدموننا معا، يدفنوننا معا.
بكى معها.
 روزالي ،ليغفر الله لنا إن أخطأنا .
حبيبتي الوداع فسوف نلتقي فى الجنة، صدقيني لن أنساك، سأبحث عنك هناك، فى الجنة لن أقبل بديلا عنك كل حوريات الجنة، سنعيش هناك معا مع ابنتنا بلستينا التي سنموت بسببها.
تماسكي يا روزالي.
قالها وهو بحاجة إلى من يشد أزره.
قالت له بعد أن أخبروها بانتهاء الزيارة
  الوداع ناصر، الوداع ،أحبك
وأرسلت له قبلة فى الهواء من وجه ملأته الدموع.
التقط ناصر القبلة الأخيرة من الهواء توقف عن البكاء فجأة، قال في سره
هذه ساعة الموت فارحمني يا رب.
اللهم اجعلها موتة سهلة بدون عذاب.
أدخلوه الغرفة غرفة الاعدام، كان كرسي الإعدام في وسط الغرفة الصغيرة التي تشبه غرفة طاقم مركبة أبولو الفضائية أجلسوه على الكرسي، ربطوا يديه على جانبي الكرسي الحديدي وربطوا كل أنحاء جسمه بعد ذلك، وضعوا على رأسه جهازاً أشبه بماكينة تصفيف الشعر لدى حلاقي النساء كانت الغرفة مليئة بأجهزة لا يعرف ما دورها، أسلاك كثيرة كانت تمتد هنا وهناك كاميرات بالغرفة وكان أمامه شباك صغير، يبدو أنهم عندما سيعدمونه سيتفرجون عليه من خلاله كيف يلفظ أنفاسه الأخيرة، شدوا وثاق رجليه لم يعد يستطيع أن يحرك شيئا فى جسمه.
يا الله ما هذه النهاية المرعبة؟.
أهذه أمريكا التى فرحت ورقصت عندما منحني القنصل الفيزا لدخولها؟ حينها فرحت ورقصت لأنني سأذهب لبلد الحرية والعدالة. لم أكن أعرف أنني ذاهب لحتفي المؤجل.

ما زلت أتذكر تلك الليلة المشؤومة، حينما عادت بلستينا بعد منتصف الليل وهي مخمورة، دخلتُ إلى غرفتها فنظرت إلي مرعوبة وقالت
 يا إلهي أرعبتني، ماذا تفعل في غرفتي؟.
 أنتظرك.
 أتريد إسماعي نفس الحديث كل مرة؟ لقد سئمت من تعاليمكم فأنا حرة أخرج متى أشاء وأصاحب من أشاء نحن في أمريكا وليس في فلسطين.
 لا هذه المرة أعدك ألا تخرجى من البيت.
ضحكت وهي تتمايل ، اقتربت منها، ففاحت رائحة الخمر من فمها ، سألتها:
 أسكرتِ؟
 وماذا يهمك، أنا حرة.
 لم يعد بالإمكان السكوت على ما تفعلين.
 اضرب نفسك بالحائط.
ثارت ثائرتي لم أحتمل إهانتها الزائدة
 بلستينا ، احترمي نفسك، وصفعتها على وجهها.
 تضربني يا خنزير سأتصل بجيرى ليضربك كما ضربك من قبل، يبدو أنك لم تتعلم من المرة الأولى.
توجهَت للهاتف، فأمسكتُ بشعرها ثم رميتها على الأرض
  أتهددينني بصديقك التافه؟
استيقظت روزالي على صراخها فرأتني أشد بشعرها وأمنعها من الوصول للهاتف. بعد أن أفلتت مني، هربت للمطبخ فعادت بالسكين
- إن أقتربت مني سأطعنك.
صرخت فيها أمها
  اتركي السكين بلستينا، ماذا دهاك؟ أتريدين قتل أبيك؟
أنسيت إنه أبوك؟ أنسيت الذي كان يباهي العالم بك؟ أنسيت كم من الحب والحنان منحك؟ أنسيت إنه ميزك عن كل أبنائه؟
  دعوني وشأني، لا أريد حنانكم، لا أريد تدخلكم بي، لن أبقى في البيت.
توجهت وهي تتمايل للباب لتغادر البيت وهي تحمل السكين بيدها، خفت أن ترتكب جريمة وهي بالشارع والسكين بيدها لحقت بها وقبل أن تفتح الباب أمسكت يدها التي تحمل السكين، قاومتني، تعاركنا لثوان وحاولت أن تضربني بالسكين. كانت تصرخ ورائحة الخمر تزكم أنفي
  اتركني يا ابن الزانية، اتركني يا سافل، سأرسل صديقي ليضربك اليوم ويلقنك درسا لن تنساه، أنا بريئة منكم ومن دينكم ومن عادتكم.
جاءت أمها لتساعدني لتخليصها السكين فأمسكت بشعرها فشتمت أمها قائلة
  اتركيني يا بنت الشرموطة
لم يبق لدي عقل أسيطر عليه، فجأة خلصت السكين من يدها وطعنتها ببطنها عدة طعنات حتى سقطت على الأرض مضرجة بدمها..

صرختُ بعد أن أفقت من هول المعركة، منظر الدم على يدي وابنتي أمامي على الأرض مضرجة بدمائها، قتلتها، ماتت، ماتت الفاجرة، لوثت اسمي بالوحل، جلبت العار لي للأبد، هل انتهى كل شيء ،هل أعاد قتلها الشرف لي؟!

نظرت إلي أمها التي لم تصدق ما جرى وهجمت على جثة ابنتنا تقبلها وتقول لماذا فعلت ذلك يا بلستينا؟
نظرت لي وقالت:
  ناصر بلستينا ماتت .
بكينا وتعانقا، وقلت لها:
ماتت ابنتنا الوحيدة،على يدينا ، ياللأسف.
سألتني:
 ما العمل ؟ فقلت لها:
 لقد قتلناها دفاعا عن النفس، علينا الاتصال بالشرطة والإسعاف. نرجو الله أن يلهمنا الصبر.

ما أصعب أن يقتل رجل ابنته أو ابنه، إنه شعور رهيب حتى لو تم فى لحظة غضب، شعور مرعب حتى لو ارتكبت البنت كل جرائم الدنيا.
ابنتك جزء منك،قطعة منك يا ناصر، عاشت معك أياما وليالي، كم حملتها وكم لعبت معها، كم قبلة طبعت على خدها ،كم قطعة حلوى اشتريت لها ؟كم قصر بنيت لها في الجنة؟
كنت ترى بعيونها العالم وها هي أمامك جثة هامدة تفوح منها رائحة الخمر.
لماذا لم تمنعيني من الحضور يا أمي ؟، كنت تملكين تأثيراً علي لكنك اكتفيت بالدموع. لماذا لم تكسر رجلي يا والدى؟.
أعرف أنك يا والدي زعلت علي وكنت تريدني ألا أرحل وتوسلت لي كي لا أسافر.

بينما كانوا منهمكين في إعداده للإعدام كان هو يسبح في بحر ذكرياته. كان يتذكر ساعة أخبر والديه وزوجته وأولاده في ترمسعيا بالخبر المفرح بعد عودته من القدس حاملا معه جواز سفره الممهور بالفيزا ، دخل البيت يغني:

على دلعونا على دلعونا
يلا يا ناصر سافر من هونا
لا بدي مرتي ولا بدي خيي
بدي الدولار أخضر اللونا

 باركوا لي، باركي لي يا سهام ، باركي لي يا أمي، بارك لي يابا باركوا لي يا أولاد ،الخير لقدام. وداعا للفقر وداعاً.
 ما هذا يا بني؟ أطربان لهذا الحد؟ خبرنا شو صار؟ قالت أمه:
فرد عليها يغني
  يما يا يما، ايش اللي صاير
السعد جاني وأنا اللي طاير
حضروا الشناتي ( الشنط) وأنا بكره مسافر
واركب طيارة كبيرة ومزيونة.

وقفت سهام تتفرج مستغربة
  ماذا حصل؟ ماذا أسمع؟ ألا زلت تحلم بأمريكا؟
  لم يعد الأمر حلما بعد، الحلم أصبح حقيقة ، تعالوا لأريكم الفيزا التي حصلت عليها اليوم، فتح جواز سفره على صفحة الفيزا.
  أرأيتم ، مدتها سنة، يعني يمكنني أن أذهب هناك مرة ومرات، لكن مرة واحدة تكفي بعدها سأكون أمريكيا.
نظر إلى أم نبيل وقال لها:
  يا أم نبيل ، هذا حلمنا، بعد أيام سأسافر لأمريكا، أريد أن أعود لكم بفلوس، دولارات بالأخضر، ألم تسمعي أمي عندما كانت تقول لي قبل سنوات: اللهم اجعل طريقك خضراء.
نعم ستصبح الآن خضراء فقد استجاب الله لها، لكن ليس بسبب الزرع الأخضر في بلدنا ترمسعيا ولكن بسبب الدولارات، الدولارات الخضراء تجعل كل شيء بالحياة أخضر حتى الطريق الصحراوية. سأبني لكم بيتا
 لا فيلا قاطعته سهام ، وكم ستغيب يا ترى؟.
  خمسة أو عشرة أو..
  عشرة أيام؟
ضحك ناصر..
  عشرة أيام، قولي عشر سنوات ، عشرين سنة.
  ماذا تقول ؟ صرخت.
فقالت أمه:
  لا لا هو يمزح ، ناصر لن يتركنا من أجل الفلوس.
  أتريد أن تتركنا يا ناصر مثلما يترك أهل البلد نسوانهم وأهاليهم ويعودون لهم بعد أن يموتوا أو يشيبوا.
أدرك ناصر أنه ورط نفسه فقال:
  يا روحي يا أم نبيل. أنا مسافر لمصلحتكم جميعا، من أجل أولادنا، أحبابنا، مستقبلنا، من أجل أمي وأبي. لن تطول غيبتي كثيرا من يدري قد أعود بعد سنة لآخذكم معي.
  وكيف ستأخذنا؟.
  بعد أن أحصل على جنسية أمريكية.
  وهل ستحصل عليها بيوم وليلة؟.
  طبعا لا لكن لكل شيء ثمن، ألا تحبين أن تعيشي فى أمريكا بلد آل كابون؟.
  من آل كابون هذا؟.
  آل كابون يا مغفلة ،هذا زعيم عصابة مافيا كان يحكم شيكاغو أكثر من الحكومة!.
  أتريدنا أن نسكن فى بلد العصابات والزعران؟.
  يا سهام ، خليها مستورة يعني مسافر ومش راح أتراجع.
نظرت سهام إلى والدي الصامت وقالت له:
  قل شيئا يا عمي، قال أبو ناصر:
  ماذا أقول يا ابنتي سهام ، أنت ترين بأنني على حافة قبري ولا أريد أن يبعد عني. ولو فكر لحظة في أبيه لعدل عن السفر.
  حتى أنت يا والدي ، هل تريدونني أن أظل فقيراً عاطلا عن العمل، أتسكع فى رام الله وسيارة جيش اليهود توقفني في كل مكان، أين بطاقة الهوية؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ارفع يديك، إلى الخلف در ، ماذا تحمل في الكيس؟.
يابا والله لن أنساكم لكن علي أن أعمل ما برأسي، نصف أهل البلد مسافرون .. يعنى مصلحة لنا جميعا.
قال والدي لي بعد أن اغرورقت عيناه بالدموع .
  الله يرضى عليك يا ابني ، وفقك الله ،ونحن لنا الله. اهتم بنفسك، أنت تعرف إنك الوحيد لنا فليس لنا ولد سواك بعد موت أخيك الأصغر في حرب عام 1967.
  يا أبا ناصر خليك صبور وخلي الولد يحقق أحلامه قالت أم ناصر.
  وكمان بتشجعيه يا زوجة عمي ؟ قالت سهام
  يا ابنتي نحن لن نشجعه لكن ما دام مسافرا بموافقتنا أو بدونها ليس لنا إلا أن نتمنى الخير له . اصبري معنا والصبر مفتاح الفرج.

عاد ناصر من ذكرياته، وبدأ يتمتم
حقكم علي جميعا ، تركتكم وأنتم بحاجة لي وها أنذا أموت فى أرض غريبة. كانت أمنيتي أن اصبح غنياً . عندي بيت وسيارة وحساب في البنك، لم أكن أعرف أن لكل شيء ثمنا يجب دفعه.
ضحكوا علي قالوا هذه بلد الحرية!!
أين هي الحرية التى يزعمون؟
لماذا منحني القنصل الفيزا؟ ألم يرفضها من قبل أكثر من مرة؟ ما الذي أقنعه أنني سأعود؟
ألم يكن يعرف في قرارة نفسه أنني لن أعود وأنني أكذب عليه؟ هل كان غبيا أم كان يريدني أن أذهب لتلك النهاية الحزينة؟
كأنه أراد الانتقام مني.

أليس من حقي أن أربي ابنتي كما أريد؟ أليس من حقي أن أعلمها الثقافة والتقاليد التى أشعر أنها الأفضل لها ولي وللمجتمع ؟ اين حريتي الشخصية ما داموا يتدخلون فى كل شيء، أعلمها شيئا فيعلمونها فى المدرسة والشارع والتلفزيون شيئا آخر تماماً، يعلمونها التمرد على كل ثقافتنا وتقاليدنا يعلمونها السخرية من تاريخنا، يريدونها أن تكون امرأة شهوانية تنتقل من رجل لآخر تحت شعار الحرية.
من قتل ابنتي؟ هل أنا المسئول؟.

من سمح لهم ببيعها الخمر والعودة سكرانة من خمارات البلد؟ الكلاب يتوهمون إنهم أكثر حبا لابنتي مني أنا.
مجانين . ألست وأمها من سهر الليالي لتربيتها؟.
ألست من كان يقضي معها ساعات في المستشفى إذا مرضت ؟ هل القاضي أكثر حزنا مني عليها؟. ماذا قدم لها القاضي؟
كم ليلة سهر من أجلها؟

آه بلستينا ،كم دللتك، ميزتك عن زينب يبدو أن الله يعاقبني ،منحتك حبا وحنانا أكثر مما وهبته لزينب وأخويها أولادي من الأم الفلسطينية وها أنا أموت على يديك فيما زينب تبكي الآن حزنا على والدها الذي كانت تحلم وهي صغيرة أن يمنحها بعض حنانك، بعض حبك بعض ما منحته لك.
آخ يا زينب كم ظلمتك يا ابنتي، كيف أنت الآن، وكيف أخوك نبيل وأخوك زياد، أعرف أنهما ابتعدا عني لانني اهملتهما. سامحوني، سامحوني فلم يبق لي سوى دقائق . عندما ينتهون من ربط كل الأشياء وفحص ما يفحصونه سأموت، سأغادر هذا العالم.

سأترك البلد التي رقصت فرحا بالقدوم لها وها أنا أبكي وأنا أغادرها لكن ليس لفلسطين، ليس لرام الله، ليس لقبر أمي وأبي، ولكن لمقبرة هنا في ضواحي الغربة. فرحت عندما منحني القنصل الفيزا وقلت له بسعادة
  ثنك يو مستر قنصل، أنا سعيد لأنني سأزور بلدكم بلد الديمقراطية. وعندما غادرت القنصلية كنت أضحك لأنني استطعت أن أخدعه لأنني عزمت على السفر للبقاء هناك وليس للزيارة.
كنت أعتقد إنني خدعته، وها أنا أضرب اليوم كفا على كف، يبدو أنه هو الذي خدعني.

انتهى فريق الإعدام من ترتيب اللازم، خرجوا من الغرفة وأغلقوها عليه كانوا من الخارج يراقبون كل شيء من خلال الشباك الزجاجي الذى يفصل بينه وبينهم.
كان السجانون والمسؤولون يراقبون الوضع، بدأت لحظات العد التنازلي لم يبق سوى دقيقة.
ناصر وقد استعاد بعض هيبته.
 اللهم رحمتك أشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله.
اللهم إني استودعك أولادي وخصوصا زينب فاحفظها برعايتك وأنزل السكينة على قلبها.
اللهم ارحم روزالي واغفر لها.
تراءى لناصر شريط حياته كلها فى ثوان معدودة. ها هو يحضن بلستينا يقبلها، يقول لها أنت بالدنيا كلها. فجأة يتذكر الليلة الأخيرة عندما طعنت بالسكين. يصرخ لا لم أقتلها، أحبها، بلستينا ابنتي، حبيبتي، لن تحبوها أكثر مني ، لن تحبوها..
صعقته الكهرباء فجأة، اهتز جسمه هزات متتالية لثوان، فتح فمه وخرج لسانه، وتوقف قلبه عن الخفقان.

عرف السجانون من الأجهزة المربوطة بقلبه أنه مات .

 مات ناصر..
قال أحد السجانين لأهله فى غرفة الانتظار فى السجن يمكنكم استلامه من المستشفى بعد توقيع الأوراق اللازمة.

انتهى الأولاد من توقيع الأوراق اللازمة .دخلوا غرفة الأموات سحبوه لهم من الثلاجة رفعوا عنه الغطاء . كان مخيفاً . عيونه أشبه بمن يبحلق بشيء أمامه كان عابس الوجه كأنه يلوم الدنيا على ما جرى له أما فمه المفتوح فكان كأن آخر كلمة نطقها لم تكتمل، فبقيت في حلقه حزينة لا تدري هل تخرج أم تعود حيث أتت.

صرخ الأولاد جميعا، لم يتحملوا المنظر، تدخل بقية الأصدقاء فحملوهما للخارج وطلبوا من المستشفى نقل الجثة بسيارة نقل الموتى التي تنتظر بالخارج لتنقله للمسجد للصلاة عليه قبل دفنه.

حضر الكثير من العرب جنازة أبو نبيل،فقد جاءوا جميعا للصلاة عليه بالمسجد ورافقوه إلى المقبرة الإسلامية جاء فى جنازته أصدقاؤه العرب المسيحيون والمسلمون، وعدد من الأمريكيين وبعض الأمريكيين من أصل مكسيكي كانوا جميعا حزانى لموته. حزنهم لم يكن يعني موافقتهم لقتل ابنته رغم أنهم سمعوا ما حصل تماما من أولاده لكنه حزن من يأسف لمن يحبه أن يتورط فيما يتورط به.

حاول أن يقرب بين مختلف الجاليات العربية حاول أن يجعل منهم جالية موحدة بعيدة عن صراعات الحكومات والزعماء العرب تعرض للملاحقة للمطاردة لكن بدلا من السجن بسبب نشاطه الاجتماعي أعدم بسبب قتله لابنته. ظل حتى اللحظة الأخيرة يقول : لم أقتلها هم الذين قتلوها هم الذين دفعوني لقتلها سلبوها مني، جردوها من كل إنسانية، علموها السكر والتحشيش علموها فن الدعارة ثم ضحكوا عليه.

روزالي في غرفة الإعدام

فى نفس السجن ،وفي نفس غرفة الإعدام كانت روزالي فى اليوم الذي يليه تستعد لتسليم مقاليد حياتها للسجانين حكموا عليها بالإعدام، قرروا أنها يجب أن تموت لم يرحموها كانوا أكثر قسوة عليها من ناصر قالوا لها أنت أم فكيف تجرئين على قتل ابنتك ،لم يصدقوها أنها لم تنو قتلها وأن ابنتها هي السبب.

قالت لهم أنا مسيحية لست مسلمة مثل ناصر، لكن لا يوجد أب ولا أم في العالم ترضى لابنتها الانهيار، كل واحد منكم يريد الخير لابنائكم لكننا أحيانا فى ظروف معينة نحاول أن نقسو عليهم لوضعهم فى الطريق الصحيح فكثيرا ما تنجح المحاولات لكن أحيانا تكون الجرعة قد فاقت الحد المعقول فتحصل الكارثة.

قرأوا عليها لائحة الاتهام والقرار بالإعدام.. سحبوها للداخل أجلسوها على الكرسي ،ربطوها كما ربطوا ناصر كانت تقول فى نفسها:
هنا كان ناصر يوم أمس ،كأنني أجلس فى حضنه الآن ، آه ناصر، أين أنت؟، لماذا لا تضمني لصدرك، لماذا لا أشم رائحة أنفاسك؟أين أنت؟ أنا بحاجة إليك هذه اللحظة، أريد حنانك، أريد عطفك، أريد أحضانك. أين يديك ؟ أين حبك؟ أصحيح أن كل ذلك أصبح مجرد ذكرى؟ ولكن من سيتذكر ذلك يا ترى بعد قليل سألحق بك إلى حيث تكون هل صحيح ستستقبلني على باب الجنة ؟ أصحيح أن بلستينا ستكون معك بعد أن تشفى من جحودها لنا؟

سامَحَك الرب يا بلستينا ،لقد قتلت أمك وأباك وقتلت نفسك، قتلت أسرة كاملة كانت تنعم بالهدوء.
بلستينا نحن نحبك رغم كل ما جرى، آه بلستينا لو كنت الآن حية كما أردناك لما همنا الإعدام. لقد ضحينا لأجلك، تعبنا، جاهدنا لكي نجعل منك أفضل بنت في العالم .
لا يا بلستينا لم نكن نريدك أن تكوني نسخة منا لكن لا نريدك أن تكوني مجرد فتاة مراهقة تتسكع بالشوارع. كان أبوك يحلم أن تكوني مثل مدام كوري، أو حنان عشراوي، كنا نحلم أن تكوني بدرا يتصارع الكل لينعموا بنوره. فاخترت صديقك الأسود تاجر المخدرات المتسكع بالشوارع وعندما نهاك أبوك عن ذلك أرسلت صديقك ليعتدي عليه في المحل.

أبوك الذي منحك حنانه يتعرض للاعتداء من مراهق أوهمت نفسك بحبه مع إنك كنت تقضين الوقت معه تتعاطين المخدرات والخمر.
لم نبخل عليك ،لم نحاول أن نسلبك حريتك لكن كنا نريدها حرية إيجابية لا سلبية.
أيستحق أبوك لعنة العار التي تلاحقه فى قبره؟ لماذا كل ذلك؟.
ليتك سمعت كلامنا يا بلستينا.
ليتك سمعت كلامي.
يرحمك الرب يا ابنتي، سامحينا إن أخطأنا لعلك الان أمام أبيك تطلبين عفوه، لاتبعدا كثيرا فأنا قادمة إليكما انتظراني على باب الجنة، لا تتعمقا في الداخل فقد تضيعان عني.
أريد أن أراكما، أريد أن اضمكما إلى صدري، أريد أن أقبلكما، ليرحكما الرب وليرحمني بعدكما.
ناصر نا....
لم تستطع روزالي أن تكمل الكلمة فقد صعقتها الكهرباء بوقف دماغها وقلبها عن الحركة .روزالي أصبحت جثة هامدة .
روحها لحقت بروح ناصر ومن قبلهما ابنتهما بلستينا، عائلة كاملة سلمت أرواحها لباريها، كأنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة، أو كأنها قصة خرافية تحدثها جدة لحفيدتها فى سرير نومها. وكأن الحفيدة تقول لجدتها جدتي، جدتي، ماذا تفعل بلستينا الآن فى السماء؟.
جدتي هل صحيح ناصر كان يحب ابنته؟
فترد الجدة قائلة: عندما تكبرين وتخلفين سوف تعرفين كم يحب الأبوان أولادهم.

خبر إعدام ناصر وروزالي وصل رام الله وقراها المجاورة فجاءت الحاجة سعدية تخبر سهام وأمها بالخبر.
 هل سمعت يا سهام ؟ ناصر وزوجته أعدما في أمريكا. انتقم لك الله من ناصر، ألم أقل لك أن الله يمهل ولا يهمل؟
 معقول؟ سألت أم سهام.
 ألا تصدقيني ؟ لقد قتلا ابنتهما بلستينا. ذبحاها بالسكين لأنها كانت دايرة على حل شعرها. بنات أمريكا كلهن عايبات. ألم أقل لك من السابق ؟
صفنت سهام وسألتها.
 معقول؟ ناصر يقتل ابنته؟.
أعتقد ربما اتهموه زوراً ، لا يمكن له أن يفعلها.ناصر يحب أولاده.
 يا سهام، أنت تعتقدين تربيتك أنت للأولاد مثل تربية المكسيكية، أنا سمعت أن ابنته كانت من يد إلى يد، أستغفر الله العظيم حتى أنها كانت تصاحب شابا أسود من تجار المخدرات. يالطيف الطف.
صاحت أمها:
  هذا جزاؤه لما فعله معك. لقد انتقم الله لك
قالت سهام:
 حرام عليك يا أمي، الله يساعده على بلوته.
 يا حمارة بعد كل ذلك تشفقين عليه
 ليس هذا يا أمي لكن..
 لكن ماذا..؟
قالت الحاجة سعدية مازحة.
 أكيد ما زالت ابنتك تحن له .
 لا تفهموني غلط. أنا لم اصفح عنه ولن أسامحه لكني لا أحقد الآن على أحد، تركته لله وهو الغفور الرحيم.
 الله كبير وهذا انتقامه.
 لكن يا أمي.. صمتت ثم قالت:
ماذا يفيدني دخوله السجن الآن وإعدامه ؟ هل سيرد لي شبابي الذي ضاع؟ هل سيرزقني بزوج صالح؟ تعرفين أن كل من تقدموا للزواج مني كانوا يكبرونني بثلاثين سنة وبعضهم كانوا متزوجين . مهما حصل له فلن يغير من واقع الأمر شيئا . اللهم إلا أنه يشفي غليلى، يشفي حقدي عليه لكن مع الأيام والآلام التي عشت فيها تعلمت أن الحقد والكره لن يحلا شيئا.
لعله الآن شعر بذنبه ،لعله ندم، أنا متأكدة إنه الآن يبكي دما على أيامنا التي مضت.

ايه ناصر ما الذى دفعك للهجرة؟ الفلوس؟ لقد كنا سعداء ولن يموت أحد من الجوع. كان لديك أحلى الأطفال نبيل وزياد وزينب، زينب الله يرضى عليها، يفتخر كل أب بها، زينب تركها أبوها وذهب يربي " بلستينا" لم تعجبه أسماءنا العربية فسماها مثل الإسبان.
ماذا أقول لكم والله إني أشفق الآن عليه.

قالت أمها بغضب.
 طبعا أنت خائبة مثل أبيك.

جلست سهام وحدها بعد انصراف الحاجة سعدية، تفتح دفاترها القديمة، تغوص فى ذكرياتها الماضية، هل بقي متسع من الطريق للعودة للماضي؟ هل يمكن العفو عن ناصر رغم كل ما فعله هل يقبل القلب أن يغفر؟.
ما أجمل الحب ، لكن ما أكثر الألم الذي تحملته لخيانته.

لماذا المرأة دائما هي التي تغفر وتسامح وتنسى؟! هل يستحق أن أسامحه؟ ألم يطلقني بعد خمس سنوات من سفره ليدفع لي المتأخر (300 دولار) أهذا هو الوفاء ؟كل هذا تمسك بالدين؟
جرحى كبير لم يندمل بعد، كان يقول لي دائما:
 أنت يا سهام الرئة التي أتنفس منها، بدونك لا أساوي شيئا ولا أستطيع التنفس.
فأين كانت تلك الرئة عندما تزوج المكسيكية ؟ بترها ،كأنها أصيبت بالسرطان، نسي عشرة العمر. نسي أنه أحبني قبل الزواج. نسي عندما كنت وإياه نجلس فوق شجرة الزيتون لساعة وساعتين دون أن يرانا أحد كان يقول لي:
 سهام لماذا لم يسمك أبوك ليلى ولم يسمني أبي قيس؟
فأقول له:
  حتى نصنع قصة حب أخرى سهام وناصر
يضحك ثم يقترب مني فأدفعه بغصن زيتون صغير أحمله وأقول:
 ناصر لا تقترب سنقع على الأرض
فيقول:
 لا تخافي لن أتركك تقعين عن الشجرة.
 لماذا هل أنت سوبرمان؟
 لا لكن قلبي سيحميك من السقوط.
كنت سعيدة بكلامه ،وأتعمد المشاكل معه حتى يصالحني كنت أحاول الابتعاد عن يديه لكن جسمي كله كان يرتعش عندما يلمسني، كنت فرحة بلمسات يديه، ونظرات عينيه. لكن طبيعة المرأة في بلدنا تتمنع وهي راغبة.
آه يا ناصر نسيت كل ذلك، وأسكرتك أمريكا.
تركتني من أجل بلد الذهب والغنى. كنت تحلم بالفيلا والسيارة العريضة و.. و.. و..
بعتني من أجل سيارتك والفيلا التي حلمت بها فماذا حصلت منها؟.
الشيب غزا مفارقنا ولم يبق من العمر كثير فماذا جنيت من أمريكا؟ حتى لو أفرجوا عنك ولم يعدموك هل ستكون سعيداً عندما يظهر لك شبح ابنتك المذبوحة؟.

هل ستكون سعيداً عندما تنظر في عيون الناس فيشيحون بوجههم عنك إما لأنك قاتل وإما لأنك والد البنت التي كانت فاجرة، ماذا سيقول الناس الآن لابنتك زينب؟.
هذه ابنة الذي قتل ابنته، أكيد هذه البنت مثل أختها.
وعندما يتشاجر نبيل أو زياد مع أحد سيقولون له: لو كنت رجلا لما سمحت لأختك أن تكون عاهرة من خمارة لخمارة. كل هذا بسببك أنت يا ناصر.
أنت السبب، أنت دفعت ثمن أفكارك ونزواتك .
أنت تدفع ثمن تلهفك على أمريكا ،لم تعجبك ترمسعيا ولا ترابها الحنون . يا خسارة لما تموت قد لا يسمح لك أن تدفن فيها، أرأيت كيف تكون الغربة؟ لقد تركت وطنك مختاراً لا مجبراً فتخلى عنك ترابه وحجارته وهواؤه.

ليتك تعرف أن نسمة هواء قريتنا، تحت شجرة الليمون التي كانت في باب دارنا أجمل من أمريكا كلها.
ليتك تعرف روعة السهر على ضوء القمر فى كروم العنب ونحن نشرب الشاي ونتسامر، لا ليس خماراتكم ولا باراتكم ولا مولاتكم أجمل.
لا يا ناصر لن اصفح عنك، لكنني لست حاقدة عليك ،لست شامتة بك، بل أدعوه أن يترفق بك وأنت تدفع ثمن غلطاتك الكبيرة.
كانت لحظة سوداء تلك التي أخبرتني فيها إنك حصلت على الفيزا.
لماذا يا رب ساعدته بالفيزا؟ لماذا لم توعز للقنصل أن يرفض منحه الفيزا؟
لا أدري لماذا يسألهم القنصل إن كانوا سيعودون وهو يعلم أنهم لن يعودوا.
هل يخدعونهم أم هي خطة لتفريغ البلد من أصحابها الشرعيين ؟.

صمتت لحظة وبدأت تتمتم ما كانت تغنيه عندما سافر ناصر إلى الولايات المتحدة وتركها:

يا ظريف الطول وقف تقول لك.
رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك
خايف يا المحبوب تروح وتتملك.
وتعاشر الغير وتنساني أنا

تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً