ظل يراسلها سرا في سبعينات القرن العشرين، عندما كانا طالبين، وبعد أن بادلته الحب تواعد على اللقاء في مكان لا يراه فيها أحد من أهليهما، كان الجندول المكان المفضل لديه، فهو عبارة عن كافتيريا من الدرجة الأولى في القدس يقع في شارع الزهراء، يجلس فيه الزبائن في الطابق العلوي بعيدين عن أعين الناس. أسعار المشروبات فيه عالية مقارنة بالمحلات الأخرى، لذلك لا يرتاده سوى السياح وبعض العشاق، وأشخاص ليسوا من أهله ولا أهلها.
كان يختار أوقات وأيام لقائه معها في الفترات التي يكون المحل خاليا أو شبه خال من الزبائن. ليأخذ راحته في وصف حبه لها وليستطيع أن يسرق منها بعض القبلات بعد أن تتمتع قليلا.
القبلات التي يقطفها العاشق من معشوقته وهي تحاول التمنع خجلا لها طعمها الخاص. فيها سحر رائع ولذتها تسري في الروح قبل الجسم.
لم يدم لقاؤه بها سرا فقد اتفقا على الزواج، تزوجها ليحقق معها حلمه الأكبر في الحياة، وقد عاهدها أن تكون كل حياته. حبه لها سيطر على تفكيره، فكان لها عونا في كل شيء.
سعادته لها لم تدم طويلا. فقد اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة مقاومة الاحتلال، وحكمت عليه بالسجن لمدة 20 عاما. لكن زوجته منال لم تتركه في السجن يعاني وحدة فقد أقسمت أن لن تتركه ولن تتخلى عنه، ستنتظره حتى يفرج عنه. كان فخورا بها يتلهف إلى زيارتها كل أسبوعين مرة وحدها وأحيانا مع والدته. وقد وجدت وظيفة لها ساعدتها بالإضافة إلى مخصصات الأسرى على تكاليف الحياة.
لكن أمه فتحية لم تترك الزوجة بحالها، فقد اغتاظت أنها تحصل على راتب (مخصص) ابنها الشهري من مكتب الأسرى والبالغ حوالي سبعين دينارا أردنيا فبدأت تخطط للتخلص من زوجة ابنها.
في البداية أجبرتها على التوقف عن زيارته لفترة من الزمن بحجة أن أعمامه يريدون زيارته (عدد الزوار لكل أسير 3 فقط) في الزيارة الواحدة، ومرة بحجة أن أخواله سيزورونه وأخرى بحجة أن أولاد عمه سيزورنه. كانت تستغل تلك الزيارات لتخبر ابنها أن زوجته، تخطط لتركه، وأنها... والعياذ بالله... لا لا... لا يجوز الظن بالسوء.
– ماذا يا أمي أخبريني.
– لقد شاهدتها مع شاب تسير بالقرب من مدرسة دار الطفل العربي.
– معقول؟!
– وهل يمكن لأمك أن تكذب عليك؟
لم يتحمل ماجد الخبر الذي هزه من الأعماق. هل يمكن أن تكون أمه قد أخطأت؟ لكن لماذا لم تأتِ لزيارتي منذ مدة؟
سألها بعد أن عادت لزيارته بعد شهرين، فقالت له:
– أمك أخبرتني أن أعمامك وأخوالك سيتناوبون على زيارتك،
لكن أمه التي جاءت معها بنفس الزيارة انكرت ذلك وقالت لابنها:
– لا تصدقها يا ماجد، لم يطلب أحد من أعمامك زيارتك، كلهم مشغولون.
نظرت إلى حماتها مستغربة، وقالت لها:
– أنسيت أنك قلت لي....
– يا بنيتي، لا تقلقي فماجد يحبك حتى لو لم تزوريه.
بدأ الشك يسري في قلبه، وأمه تحرضه كل زيارة حتى أوصلته إلى قناعة أن يطلقها.
– طلقها يا ماجد، هل ستنتظرك عشرين سنه؟
في لحظة غضب قرر طلاقها، وقضى بيده على أجمل لحظات حياته.
سعدت أمه بالخبر فأحضرت معها في الزيارة التالية أحد رجال الدين العاملين في المحكمة الشرعية، حيث طلق ماجد زوجته أمامه.
وعندما علمت منال بالخبر من المحكمة الشرعية، صدمت ولم تصدق، فحاولت زيارته لاستيضاح الأمر لكن أهلها منعوها وقالوا لها:
– كيف تزورينه بعد أن طلقك وأرسل لك ورقة الطلاق؟ ولم يكلف نفسه أن يراك أو يناقشك بالأمر.
لم تصدق منال أن ينهار حبها مع ماجد بهذه السرعة.
تذكرت لقاءاتها معه، كلماته الجميلة، قسمه الدائم:
– منال أقسم بفلسطين وشرف الثوار أن تكوني المرأة الوحيدة في حياتي...
كانت تتساءل والدموع تسيل من عينيها:
– أين شرف الثوار يا ماجد؟ لماذا أقسمت بفلسطين وحنثت اليمين.
أرسلت له رسالة إلى عنوانه في سجن بئر السبع تسأله لماذا فعلت ذلك؟ أين حبك ووفاؤك؟ أنسيت زياراتي لك أثناء التحقيق؟ أنسيت إصراري على انتظارك حتى عشرين سنه؟ لماذا تغيرت؟ هل تغير القضبان الإنسان؟
هل تتغلب القضبان على الثوار فيتنازلون عن أحبتهم؟
وصلته الرسالة فهزته من الأعماق. ما الذي فعله؟ هل تسرع ماذا يقول؟
رد عليها برسالة حاول فيها أن يبرر تصرفه بحبه لها وحرصه على مصلحتها حتى لا تنتظره عشرين عاما. لم تصلها الرسالة فقد صادرها أبوها حينما وصلت ولم يعلمها بها. كان أبوها مصدوما من قرار ماجد. يلعن الثوار الذين على شاكلته. الثوار غير الأوفياء الذين لا يقدرون تمسك زوجاتهم بهم.
كان أول شيء قامت به أمه بعد أن صدرت وثيقة الطلاق، تقديم نسخة منها إلى مكتب الأسرى لإيقاف صرف الراتب إلى زوجته، وتحويله إلى أمه التي كانت تصرفه على البيت رغم أنها لم تكن بحاجة إلى شيء فقد كان أبوه يقوم بواجبه تجاه بيته.
وكلما كان والده يسأل زوجته عن الراتب تقول له أنها تصرف منه على البيت وتخبئ الباقي لابنها حتى يجد ما يساعده بعد خروجه من السجن.
عام 1985 كان عاما مميزا في حياة ماجد، ففيه جرت عملية تبادل الأسرى مع القيادة العامة وكان اسمه في قائمة المحررين، ما أجملها من لحظات، لحظات التحرر من الأسر رغما عن المحتل وجبروته.
سبع سنوات فقط أمضاها خلف القضبان. وها هو يعود إلى نبض الشارع من جديد.
كان أول شيء بحث عنه منال، أين هي؟ ما أخبارها؟
وأخيرا وجد ضالته، كانت تعمل في جمعية الدراسات في القدس اقتحم عليها غرفتها ليراها بعد غياب.
كانت منهمكة في إعداد بعض الملفات، نظر إليها كانت قد ازدادت جمالا.... رأته بعد أن غيرت القضبان تقاطيع وجهه. قال لها:
– منال! ثم ابتسم.
– فوجئت به أمامها بعد ما فعله بها، لم تبتسم اكفهر وجهها، وزادت دقات قلبها. قالت بجفاء.
– أهلا
– ألن تهنئيني بالسلامة؟
– بعد ما فعلته؟
– منال! هل يمكن لنا أن نتحدث.
– لماذا لم ترد على رسالتي الأخيرة إليك؟
– أرسلت لك ردا والله العظيم.
– لم أستلمه.
– هناك أشياء حتى لو افترقنا يجب أن نتحدث بها ما رأيك في الجندول؟
– الجندول؟ لا لن أعود هناك مرة أخرى.
– لماذا؟ أتخافين من استعادة الذكريات؟
– لا أريد للأماكن الجميلة أن تتلوث.
– حسنا أين؟
– هنا في الحديقة.
– أمام الناس؟
– نعم، ليس لدينا ما نخفيه عنهم.
بعد ساعة التقيا في حديقة الجمعية، واقفين، حتى لا تطول الزيارة.
سألته قبل أن يسألها:
– لم فعلتها؟
– تنهد قليلا واعترف لها بما وصله من أمه عنها.
– أنا؟ وطبعا صدقتها!
– لم أتوقع من أمي أن تفسد بيننا. أعترف أنني أخطأت. هل أنت متزوجة الآن؟
– لا لم أتزوج.
استراح لجوابها، ثم قال:
– هل يمكن إعادة الماضي؟
ضحكت بأسى:
– ليتنا نستطيع إعادة الماضي. لكن للأسف الحياة طريق باتجاه واحد.
– منال، أقسم لك أن ما مضى لن يعود وأنني سأعوضك عن كل شيء.
– قلتها بنفسك ما مضى لن يعود.
– أقصد طلاقي لك، أنا أحبك يا منال.
– لو كان حبك صادقا ما تخليت عني بتلك السهولة.
– أقسم بشرف الثورة....
قاطعته:
– لا تحلف بشرف الثورة حتى لا تحنث بيمينك من جديد.
– لماذا أنتِ قاسية إلى هذا الحد؟
– ألم تكن قاسيا عندما طلقتني حتى دون أن تسمع مني؟ ألم تكن قاسيا عندما هدمت حبا بنيناه معا؟
ألم تكن قاسيا عندما تخليت عني، وأنا التي تمسكت بك وأنت ترزح خلف القضبان أسيرا أطارد لأجلك من سجن إلى سجن لأشد على يديك وأحييك على صمودك الرائع. ألم تكن قاسيا أيها الثائر الذي ضحى من أجل فلسطين بروحه وطلق زوجته استجابة لرغبات أمه لتحرم زوجة ابنها من راتب زوجها الأسير؟ ألم...
– كفى يا منال كفى.
تساقطت دموعة على خديه. ودعها وغادر الجمعية عائدا إلى البيت نادبا حظه التعيس.
– أمي لماذا اتهمت منال وحرضتني على طلاقها.
– وهل اشتقت لها؟ لا تقلق غدا تتزوج أحسن منها.
– يا أمي أنا لا أسألك عن الأحسن. أنا أسألك لماذا فعلت ذلك؟
– لقد فعلت ذلك لمصلحتك. لماذا تقبض راتبك الشهري من مكتب الأسير وأنت بالسجن محكوم عليك عشرين سنة؟ لقد وفرت لك المبلغ، لديك أكثر من عشرة الآف دولار. من أين لي أن أعرف أنك ستخرج من السجن في صفقة تبادل أسرى؟
– أهذا كل ما همك يا أمي؟ الراتب؟
– وهل ارتكبت جريمة.
بدأت أمه تبكي، وتقول:
– لم أتوقع منك هذه المعاملة القاسية.
اعتذر لها وقبل يديها وغادر البيت.
توجه فورا إلى الجندول. لم يعد الجندول كما عرفه، تغير زبائنه، جلس وحيدا يستعيد تلك الأيام الجميلة مع منال.
هناك كانت تجلس، هناك كان يسامرها، بجانب ذلك الشباك كانا يجلسان يراقبان المارة خوفا من دخول المحل أحد الأقارب فيكتشف سرهما.
سأله النادل ماذا تشرب قال له:
– علبه بيرة.
لم يشرب البيرة في حياته، لكنه سيجربها، لعلها تسكره.
البيرة المشروب الوحيد الذي يباع هناك.
– أتريد أن تسكر يا ماجد؟ كان يخاطب نفسه.
– نعم أريد أن أسكر
– أهكذا الثوار؟
– نعم هكذا، وهل الثوار ملائكة؟ هل هم أنبياء؟ ألم يخطئوا مثل غيرهم؟
– وماذا لو رآك أحدهم؟
ضحك ثم قال:
– سأدعوه ليشرب معي نخب منال.
كان ماجد كلما فرغت علبة طلب غيرها، وكان يدخن سيجارة إثر سيجارة وعندما لم يعد بطنه يتسع غادر المكان يتمايل.
في الطريق التقاه بعض معارفه، سلموا عليه، وشموا رائحة البيرة من أنفه. استغربوا ذلك. تغامزوا عليه سأله أحدهم:
– ما الذي تشربه؟
– بيرة على شرف منال.
– منال؟ يبدو أنك سكران؟
– سكران؟ من قال ذلك؟ أنا بخير.
تركوه وتابعوا سيرهم.
عرف أنهم اشمأزوا منه ومن رائحته. في الطريق إلى شارع صلاح الدين وقف أحد الأسرى السابقين الذي يعرفه من السجن، سلم عليه بعد أن رأه وهنأه بالسلامة.
أحس عوني أن ماجد تفوح منه رائحة المنكر، فسأله:
– ما الذي فعلته؟ أتسير سكران بين الناس؟
– أنا سكران؟
– ماجد أفق من سكرك، إنك مثال للأسرى رمز الوطن والشعب، بهذا التصرف أنت تسيء لهم. اذهب إلى البيت ولا تخرج إلا غدا. حرام ما تفعله حرام.
– حرام؟!
بعد أن تركه عوني أشار إلى سيارة السرفيس المتجهة إلى رام الله. استقل السيارة ذاهبا إلى البيت وهو يتساءل في الطريق.
– حرام؟ أليس ما فعلته أمي حراما؟ أليس ما فعلته معي منال حراما؟ أليس الاحتلال حراما؟ أليس القضبان حراما؟ أليس قسوة منال حراما؟ لماذا يتركون كل هذا الحرام ويتذكرون فقط البيرة؟
وصل البيت، فاستقبله أبوه بالصراخ:
– ماجد سكران؟
– أمي السبب!
– أمك؟ هل قالت لك أن تشرب الزفت؟
– أمي السبب، هي التي جعلتني أطلق منال.
كلكم تآمرتم علي. تركتموني أسيرا وتصارعتم على راتبي الشهري. لم يهمكم مشاعري ولا حبي، لا لا لست سكران أنتم السكارى وأنا الوحيد الصاحي بينكم.
نظرت إليه أمه، وقالت له:
– وهل ستعود لمنال ثانية؟
– ليتها وافقت، لكنها رفضت. منال رفضت. معها حق فأنا كسرت قلبها، طعنتها. أنا الثائر المغوار. ثائر على الاحتلال لكن مستسلم للإشاعات والأقاويل الفارغة.
– وهل الحل بالسكر؟
– من قال إني سكرت من البيرة؟ أنا...
أنا سكران مما فعلتِهِ بي يا أمي.
ثم سقط على الأرض دون حراك.
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |