كان فؤاد تلميذا مجتهدا، ترتيبه الأول دائما، لكنه اضطر إلى ترك المدرسة وهو في الثانية عشرة للتحول إلى سوق العمل قبل أن تجف دموعه على والده الذي توفي فجأة وهو في ريعان شبابه، ليساعد أمه على توفير لقمة العيش، بعد أن سدت أمامها كل الطرق، وتخلى عنها الأقارب ماليا، ونصحها أهلها بالتخلي عن ابنها والزواج من رجل آخر، لكنها أصرت أن تواجه مع ابنها كل مصاعب الحياة.
حَملته أمه سلة، كانت تُربط على الكتفين وتوضع على الظهر، يدور فيها في شوارع البلدة القديمة في القدس المكتظة بالباعة والمحلات والناس، فيعرض خدمته على من يحملون حاجياتهم لنقلها إلى بيوتهم داخل البلدة القديمة، أو إلى محطة الباصات والسيارات في باب العمود، فشوارع البلدة القديمة، وأسواقها للمشاة فقط.
كان معظم زبائنه من كبار السن، خصوصا السيدات. في الأيام الأولى لحمله السلة كان خجولا، يرضى بأي شيء يقدم إليه، لكنه بعد فترة، أصبح خبيرا في عمله يعرف أين يجد زبائنه، وكيف يفرض أسعاره التي كانت تتراوح بين قرش واحد، إلى ثلاثه قروش.
كانت السيدات يرتحن له أكثر من زملائه الكبار الذين كانت نظراتهم إلى النساء تزعجهن كثيرا.
لم يترك زقاقا إلا ودخله، ولم يترك شارعا لم يجرب حظه فيه، فمن باب الخليل إلى سويقه علون، إلى سوق البازار، إلى باب السلسلة، فسوق اللحامين، وسوق الخواجات، وسوق العطارين، وشارع الواد، وباب خان الزيت، وطريق الآلام، كان يسير كل يوم رافعا صوته عاليا:
– السلة، اللي عاوز السلة.
كل أصحاب محلات البلدة القديمة أصبحوا يعرفونه، حتى أن بعضهم كان ينتظره لينقل أغراض بعض زبائنهم إلى باب العامود على حساب المحل، كانوا يلقبونه (بأبو علي) نسبة إلى والده المتوفي علي الذي كان تذكره كفيل بأن يسيل دموعه.
كان عندما يحمل حاجيات أحد الزبائن، يحاول إيصالها إلى المكان المحدد بسرعة ليعود إلى السوق من جديد، وكان ماهرا في ذلك، فرغم ازدحام الشوارع بالمارة وصعوبة السير بسرعة فقد كان يجتهد في تجاوز الجميع، كان يصيح بأعلى صوته باستمرار طالبا من المارة إفساح الطريق له:
– إوعى (احذر) ظهرك، طريق للسلة.
– إوعى رأسك إوعى رجلك…
– دير بالك يا ماشي سلة أبو علي
وعندما ينظر الناس إلى الخلف فيجدون سلته محملة بالأكياس التي لا تتلاءم وسنه، فيشفقون عليه، ويعجبون لذكائه وخفة حركته، ويتساءلون كيف يتركه أهله يعمل في هذا السن المبكر وفي وقت المدرسة؟!!
في أحد المرات اتفق مع سيدة مسنة لحمل أغراضها إلى موقف باصات وادي الجوز قرب باب العمود، وعندما وصل مدخل باب العمود أوقفته المرأة لأنها تريد شراء بعض الخيار من إحدى الفلاحات التي كانت تعرض بضاعتها للمارة عند المدخل، حملت المرأة كيس الخيار ووضعته في السلة، ثم أخرجت محفظتها لتدفع إلى الفلاحة ثمنه، وما أن فتحت المحفظة حتى هجم عليها لص كان يراقبها من بعيد، خطف المحفظة بسرعة وفر هاربا باتجاه البلدة القديمة وقبل أن يتمكن أحد من المارة من إلقاء القبض عليه كان قد اختفى من المكان، وبدأت المرأة تصرخ: حرامي حرامي...
ألقى فؤاد السلة عن ظهرة بحركة سريعة، ولحق بالحرامي مسرعا كأنه يعرف طريقه، وعند مدخل جامع الشيخ لولو انحرف مسرعا إلى اليسار وصعد الدرج باتجاه حارة السعدية بسرعة عداء ماهر فيما المرأة تبكي حظها، تنتظر عودته سالما، جرت السلة الثقيلة إلى جانب الشارع ووقفت قرب بائعة الخيار تنتظر الفرج.
ترى هل سيعود صاحب السلة؟ أم سيتقاسم النقود مع اللص الكبير؟! لا أصدق، سيضربه اللص بالتأكيد، أو سيشتري سكوته ببعض القروش.
وبينما هي في سرحانها، عاد فؤاد حاملا المحفظة.
– تففضلي يا خالة، هذه محفظتك.
لم تصدق المرأة ما سمعت ورأت.
– كيف استطعت إعادة المحفظة من اللص المجرم؟ ألم يضربك؟
قال لها متباهيا:
– لا تخافي، أنا أبو علي.
وأخرج لها من جيبه موسا يحمله في حالات الطواريء.
– يا إلهي، أنت صغير عل هذه الأمور. ما اسمك؟
– اسمي فؤاد وينادوني بأبو علي.
ضحكت المرأة، وبعد أن دفعت ثمن الخيار للفلاحة ساعدته في حمل السلة، بعد أن شكرته وسار خلفها باتجاه موقف باصات وادي الجوز حالما بمكافأة مالية لمساعدته لها في استعادة المحفظة.
وصل فؤاد الموقف، وبعد أن ساعدها في إنزال الأكياس إلى الباص، كان متلهفا لقبض الأجرة والمكافأة، قبل أن تفتح المحفظة سألته:
– يا فؤاد، لماذا لا تذهب إلى المدرسة؟
– لكي أساعد أمي في لقمة العيش، فقد توفي أبي منذ عامين ولم يترك لنا شيئا.
أحست المرأة بحزن عليه، ثم سألته مرة أخرى:
– هل تحب المدرسة؟
قبل أن يجيبها لمح من بعيد امرأة أخرى تحمل بعض الأكياس وتسير باتجاه باب الساهرة، قال في نفسه لا بد إنها تريد (سلة) لأنها تسير ببطئ من ثقل الأكياس.
قال للمرأة الأولى:
– عندي طلب جديد، هل لك أن تدفعي الحساب؟
– لم تجيبني يا فؤاد، هل تحب المدرسة؟
قال لها وعينه على المرأة البعيدة يخشى أن تضيح منه.
– طبعا، كنت دائما الأول في الصف.
فوجئت المرأة بجوابه.
– الأول؟!! وتترك المدرسة؟ هذا حرام يا فؤاد.
خاف فؤاد أن تضيع المرأة البعيدة من يده، فأشار لها من بعيد. انتبهت لحركه يده وتوقفت تنتظره، قال في سره:
– لعل هذه المرأة تكثر من أسئلتها لتهرب من دفع المكافأة، هؤلاء السيدات أعرفهن جيدا، وأعرف كيف يفكرن، يبخلن علينا في الدفع ويصرفن كل فلوسهن على العطور، وأدوات التجميل. رد عليها بسرعة:
– شكرا يا ست، عندي زبونة بانتظاري، أرجوك لا تقطعي رزقي، أنا صاحب عيلة...
أخرجت النقود من يدها، كان كل ما فيها نقود ورقية، لا يوجد قروش.
– ها ها إذن تريد أن تقول لي لا يوجد معها فكة وتريد أن تضيع الوقت في البحث عن قرش هنا وتعريفة هناك، اللهم طولك يا روح.
قالت له:
– ما رأيك بمكافأة العمر؟!
– ماذا تقصدين؟
– أن أعيدك إلى المدرسة.
ضحك مستهزئا، طالما تمنى العودة إلى المدرسة، لكن من يصرف عليه وعلى أمه؟! من سيطعمه؟! من سيشتري له الملابس والكتب، لطالما تحسر وبكى كلما شاهد الأولاد عائدين بعد الظهر إلى بيوتهم، خصوصا أصدقاءه الذين يشاهدونه حاملا السلة يدور فيها في الشوارع، فيخجل منهم ويهرب إلى الشارع الآخر.
قال لها بصوت حزين:
– ومن سيطعمنا يا خالة، لا تتأخري علي أرجوك!
– وما رأيك لو وجدت لك عملا بعد المدرسة؟
نظر إليها باهتمام، وسألها:
– أين سأعمل وكم ستدفعين؟
– سأجد لك وظيفة عندي، فأنا مديرة مدرسة دار الفتاة اللاجئة، ستساعد العاملة المسؤولة عن التنظيفات بعد فترة الدوام المدرسي، وسأعطيك كل يوم عمل نصف دينار.
– نصف دينار؟!
هجم فؤاد على يديها يقبلها، فيما جذبته هي إليها وأسندت رأسه على صدرها، تستعيد فيه صورة ابنها عندما كان في سنه.
فيما كان فؤاد يذرف دموع الفرح، ودموع الحزن معا.
الفرح لأنه سيعود إلى المدرسة، والحزن على والده الذي حرم من عطفه وحنانه إلى الأبد.
بعد لحظة عواطف صادقة، نظرت في وجهه، مسحت دموعه ثم قالت له:
– والآن أريدك غدا صباحا الحضور أنت وأمك عندي، سأجري اتصالاتي الخاصة لإعادتك إلى أقرب مدرسة إلى مكان سكنك، وبعد الدوام المدرسي تأتي إلى دار الفتاة لتباشر عملك.
شكرها فؤاد وقبل أن يدير ظهره لينصرف وضعت في يده الأجرة وأغلقت يده عليها.
– لا تفتح يدك، إلا في البيت.
وضع فؤاد يده في جيبه وقد احس بورقة في يده.
– لا بد إنها نصف دينار، أجرة لم أحلم بها في حياتي، نظر إلى المرأة الثانية، فلم يرها، لا بد أن أحدا آخر أخذها، الخالق هو الرزاق.
بعد عدة أمتار قال في نفسة، لا بد أن أرى ما وضعته في يدي، أخرج الورقة من جيبه فإذا بها خمسة دنانير.
– خمسة دنانير؟! ما هذا الرزق الذي أتى من السماء؟ شكرا لك يا رب، شكرا يا الله.
وهرول باتجاه البيت في شارع الواد يخبر أمه بهدية السماء.
بعد أيام كان فؤاد في المدرسة، قبله مديرها رغم أن السنة الدراسية في منتصفها، ها هو اليوم على مقاعد الدراسة، سعيد رغم أنه مع طلاب يصغرونه سنا. لم يجد حرجا من ذلك، فقد علمته السلة كيف يعوض ما فاته.
كان أستاذ الرياضيات، يشرح بعض المسائل، ثم استدار إلى الطلاب وسألهم سؤالا للفذلكة وهو مطمئن أن أحدا لن يجيب عليه:
– ما هو الرقم الذي إذا ضاعفناه ست مرات أصبح لدينا مئة
حاول كل طالب حل المسألة على الورق وقبل أن يجيبه أحدهم قال فؤاد بسرعة:
– إنه (واحد صحيح وتسعة على ١٦ )
بهت الأستاذ، فتقدم نحو فؤاد، وقال له:
– عظيم يا فؤاد، كيف عرفت دون استخدام الورقة والقلم؟ من علمك؟
أجابه فؤاد دون تفكير:
– السلة يا أستاذ.
فضحك جميع الطلاب ومعهم الأستاذ.
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |