عندما انتقل عبد السلام إلى الحي الجديد في مدينة الخليل تعرف على جار له يدعى أحمد ويكنى ب (أبو العبد). رجل تجاوز الستين من عمره، يقيم الصلاة في أوقاتها، ويصلي معظم الأيام الفجر جماعة في الحرم الإبراهيمي. وكثيرا ما كان أبو العبد يدعو جاره الجديد إلى الصلاة معه لكن عبد السلام كان يتهرب من ذلك بدبلوماسية نادرة في منطقة الخليل.
لم يكد يمر شهر آخر حتى تعرف عبد السلام على جار آخر في جيل جاره الأول يدعى ناصر ويكنى ب (أبو إبراهيم).
أبو إبراهيم لم يكن مثل أبي العبد مواظبا على الصلاة، ولكنه كان رجلا سمحا، يحبه الناس، وكانت المفاجأة الكبرى أن أبا إبراهيم كان شقيق أبي العبد لكن القطيعة دبت بينهما ففرقتهما رغم أنهما يسكنان في حي واحد ولا يبعد الواحد عن الآخر سوى عدة أمتار.
تساءل عبد السلام عن أسباب القطيعة من أحد الجيران فعرف أنها قطيعة طويلة، أكثر من عشرين سنة!!
شقيقان يسكنان في حي واحد تفصل بينهما جبال من الحقد والقطيعة أكثر من عشرين سنة. يا الله!! لم كل هذا الجفاء؟
كان عبد السلام يتساءل دائما لم كل هذا يا ترى؟
– ماذا بينهما من خلافات ومشاكل؟
مهما كان بينهما هل يستحق منهما ذلك كل هذا الجفاء؟
جفاء؟ إنها قطيعة تامة؟ إنها .....
– لا أعرف ماذا أسميها، ولا ماذا أصفها، أهي الأنانية، أم الحقد، أم أن المسألة فيها ما يستوجب أن يصغى إليه؟
جيل كامل والقطيعة بينهما، أولاد العم لا يعرفون بعضهم بعضا إلا من بعيد، حتى حق الجيرة لم تؤد. ألم يوصي الرسول بالجار حتى الجار السابع، فكيف وهو الجار الثاني؟؟
لم يهدأ بال عبد السلام حتى استطاع جمع وفد كبير من كبار رجال البلد (جاهة) وزار الشقيقين كل على انفراد من أجل إصلاح ما بينهما، وبعد جهود حثيثة، تكللت بالنجاح بفضل جهود إمام الجامع الذي يكن له أبو العبد احتراما كبيرا.
في ديوان الحارة الكبير تجمع في اليوم التالي أكثر من مائة رجل بكوفياتهم وعباءاتهم التي يلبسونها في مثل تلك المناسبات. وبعد تقديم القهوة إلى الجميع وضع كل عضو من أعضاء الجاهة فنجان القهوة أمامة دون أن يشرب منه شيئا كعادة الجاهات التي تصلح بين المتخاصمين، ثم وقف رئيس الجاهة (الوفد) السيد حمدان أحد كبار تجار الخليل، وبعد أن حمد الله على نعمه، أشار فيها إلى نجاح الجاهة في إعادة المياه إلى مجاريها بين الشقيقين أبي العبد وأبي إبراهيم، وذكر بدعوة الرسول الكريم محمد (ص) على التقارب والتسامح وصلة الرحم، طلب من الأخوين أن يقفا ويتقدما ليتعانقا أمام الجميع، وإلا لن يشربوا القهوة.
تقدم الأخوان العجوزان والشعر الأبيض يغزو رأسيهما، وقف كل منهما أمام الآخر وقفة عتاب، نظر أبو العبد بوجه أخيه الذي لم يره منذ 22 سنة، ونظر الآخر إليه، كادت الدمعات أن تنهمر على خديهما لكن الكبرياء الزائف منعها. هجم كل منهما على الآخر، تعانقت الأكتاف، وصفق الجميع بهذه المناسبة، وطلب رئيس الجاهة من أفراد جاهته تناول القهوة بالمناسبة.
عاد كل منهما إلى مكانه، تحدث بعض الحاضرين مؤكدين أن العلاقات بين الأشقاء يجب أن تكون دائما في القمة ....
بعد لحظات الدموع انتقل الحضور يتناقشون في أمور عامة أخرى، حتى وقف عبد السلام متسائلا، ما الذي أدى بالشقيقين إلى هذه القطيعة، لكن حمدان رئيس الوفد طلب منه أن يغير الموضوع حتى نطوي الصفحة القديمة، لكن أبو العبد أصر أن يتحدث فاعتقد الحضور أنه سيتحدث عن أسرار هامة، فأنصت الجميع:
– في 22 من حزيران على ما أعتقد من عام 1985طلبنا من دار أخي أبي إبراهيم دلو ماء لأن الدلو عندنا سقط في البئر، لكننا فوجئنا أن زوجته ترفض أن تعيرنا إياه بدعوى أنهم بحاجة إليه في تلك الفترة.
تنهد أبو إبراهيم قليلا ورد على أخيه قائلا:
– وهل نسيت يا أبو العبد عندما طلبنا منكم في 21 أيار من نفس العام الطنجرة لأن ضيوفا قد حلوا علينا في ذلك اليوم؟ فماذا قالت زوجتك؟ رفضت للأسف وقالت الطنجرة مليئة بالأكل.
– طيب هل نسيت أم أذكرك أنكم قبلها بشهرين في وسط شهر آذار طلبنا منكم شوية ملح للأكل لأن الملح قد خلص من عندنا فقالت زوجتك أنه لا يوجد عندكم ملح؟ هل يعقل أن تعز شوية ملح عن أخيك؟
– وهل نسيت أم أذكرك عندما طلبنا منكم في العاشر من كانون ثاني يناير عام 1985 شوية كمون فقلتم إن الكمون خلص من عندكم.
– وهل نسيت ....
قاطعهم حمدان قائلا، ألهذه الأسباب كانت القطيعة بينكما كل هذه المدة؟ كنت أحسب أن وراء القطيعة شيئا أكبر من ذلك.
ثم استدار إلى الشباب الجالسين بالقرب من الباب من أبناء الشقيقين وقال لهم، وجودنا هنا اليوم ليس لكي نغير عقلي أبيكم ولكن لنفتح الطريق أمامكم لتغيروا ما زرعه الآباء في عقولكم.
التاريخ | الاسم | مواقع النسيج | مشاركة |