الصفحة الرئيسيةبقايا ذاكرة
أم كلثوم خلف القضبان
الخميس ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم عادل سالم

لأم كلثوم سجل حافل مع الأسرى الفلسطينين، خصوصا الجيل القديم منهم، عندما كان الأسرى محرومين من الراديو، والتلفريون، وحتى الصحف المحلية العربية. فقد كانت منذ سبعينات القرن العشرين تتسلل إلى غرفهم لتحيي فيهم أحلامهم، وتثير مشاعرهم، وتدغدغ عواطفهم بعد أن يكون السجان قد نغص عليهم عيشتهم، ونكل بهم تنكيله اليومي المعهود.

كان الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية حتى أواسط الثمانينات لا يسمح لهم بامتلاك أجهزة راديو، ولا مشاهدة التلفزيون، وكان يسمح لهم فقط الاستماع إلى الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية التي كانت تبث من مكتب الإدارة مباشرة لعدة ساعات فقط، ساعتان ظهرا ومثلها تقريبا مساء. ولحسن الحظ كانت تبث فترة المساء (الساعة السادسة والنصف) أغنية يومية لأم كلثوم بعد موجز الأخبار مباشرة لمدة ساعة تقريبا.

في مطلع العام 1984 كنت أحد نزلاء سجن بئر السبع وكنت في قسم يتكون من 4 غرف كبيرة، كل غرفة فيها 36 سريرا مزدوجا أي 72 أسيرا.
كنا نتناول وجبات الأكل على الأرض في نفس الغرفة فقد كان العاملون في المطبخ ينقلون الأكل إلينا، ويقوم المسؤول في كل غرفة بتوزيع الأكل على السجناء كل واحد في صحن بلاستيكي ويوضع الخبز على ما تيسر من ورق الجرائد العبرية التي كانت بحوزتنا، وكان علينا بعد كل وجبة تنظيف الغرفة بالماء مما يتناثر عليها من أكل، ونغسل الصحون على الفور، وشكلت لذلك لجان يومية، على مدار الأسبوع بحيث يشارك الجميع في التنظيف من أكبر أسير حتى أصغرنا.

فترة العشاء كانت حوالي الساعة الخامسة مساء وما أن تنتهي، حتى يتم تحضير الشاي حيث تكون الساعة قد اقتربت من السادسة والنصف. فنبدأ بالسير بشكل بيضاوي يتناسب مع المساحة الزائدة بالغرفة، لتحريك أجسامنا بعد العشاء عاملين بالمثل القائل: ( تعشى وتمشى)، فقد كان لا يسمح لنا بالخروج من الغرفة إلى الساحة سوى ساعتين ونصف يوميا.

كنا نسير كل أسيرين معا لضيق المساحة، نتبادل أطراف الحديث، ونستمع لأم كلثوم، بعضنا كانوا يفضلون الجلوس على السرير مفضلين الاستماع لها وكل منهم مستلقيا على فراشة، سابحا في أحلامه.

كان صوتها يثير فينا ذكرياتنا، ومشاعرنا، وحنيننا إلى الحرية، أليس الأسرى بشرا لهم مشاعرهم وأحاسيسهم؟ من قال إن الأسرى من صخر؟ وقلوبهم من حديد؟
هم مواطنون كبقية أبناء شعبنا، يفكرون بزوجاتهم، بأولادهم، بأهاليهم، من لم يكن متزوجا يفكر بخطيبته، ومن لم يكن له خطيبة، يفكر بحبيبة عرفها أثناء الدراسة، أو من الحي الذي يسكن فيه، او بحبيبة يصنعها هو بنفسه بأحلامه ويختار لها الشكل المناسب.

الوطن ليس المكان فقط، بل هو الناس كذلك الذين يعيشون فيه، هو الأهل، الأصدقاء، الأحباب. وعندما ضحى الأسرى بحياتهم من أجل وطنهم فلم يفعلوا ذلك لأن حياتهم لا تساوي شيئا، بل لأنهم الأكثر عشقا للوطن وسكانه، والأكثر حلما بغد أفضل.

يحلمون بوطن حر يبنون فيه عش الزوجية بعيدا عن حراب الاحتلال. وطن حر يعلمون فيه أطفالهم كيف يرسمون الشمس والقمر. وطن أخضر يستطيعون من أغصان زيتونه، وحبات تينه الخضراء والحمراء إطعام أبنائهم وإهداء من يحبون بعض درره. وطن يتسامرون بين دوالي عنبه ليلا على صوت الراحلة أم كلثوم، او صوت الشبابة الفلسطينية في أحد ليالي تموز (يوليو)، دون أن يطاردهم المستوطنون ليصادروا زيتونهم، وتينهم، وعنبهم لأنه خطر على أمنهم.


تعقيبك على الموضوع
في هذا القسم أيضاً